صوت البلد للأنباء –
أصبحت الوشوم (التاتو) ظاهرة عالمية منتشرة، خصوصًا بين فئة الشباب. وتشير التقديرات إلى أن واحدًا من بين كل خمسة أشخاص في العالم يحمل وشمًا واحدًا على الأقل، بينما ترتفع النسبة في الولايات المتحدة لتتجاوز ثلث السكان.
لكن دراسة جديدة نُشرت هذا الأسبوع في الدورية العلمية المرموقة PNAS تثير تساؤلات جدية حول الأبعاد الصحية للوشوم؛ إذ تبيّن أن حبر الوشم لا يبقى محصورًا في الجلد، بل ينتقل سريعًا إلى الجهاز اللمفاوي، ويتراكم في العقد اللمفاوية، وقد يسبب التهابًا مزمنًا يمتد لأشهر ويُغيّر طريقة استجابة الجسم لبعض اللقاحات.
وتُضاف هذه النتائج إلى دراسة سويدية نُشرت قبل نحو نصف عام، وأشارت إلى ارتباط محتمل بين الوشوم وارتفاع خطر الإصابة بسرطان الجلد من نوع الميلانوما.
حبر الوشم ينتقل خلال دقائق إلى العقد اللمفاوية
الدراسة الجديدة، التي أُجريت على يد فريق من 16 باحثًا بقيادة البروفيسور سنتياغو غونزالِس من جامعة دِلّا سفيتسيرا إيتاليانا (USI)، فحصت نحو 40 فأرًا خضعوا لرسم وشوم على باطن القدم بثلاثة ألوان تُعد من الأكثر شيوعًا عالميًا:
الأسود (حوالي 50% من الوشوم في العالم)
الأحمر (14%)
الأخضر (9.1%)
وتأكد الباحثون أولًا من أن الحبر المستخدم يفي بمعايير السلامة الأوروبية، ثم استخدموا مجاهر متقدمة لتتبع مسار الحبر في الجهاز اللمفاوي ودراسة تأثيره في خلايا الجهاز المناعي.
أظهرت النتائج أن جميع أنواع الحبر انتقلت بسرعة عبر أوعية الجهاز اللمفاوي فقط، وبلغت ذروتها خلال 10 دقائق، ثم تركزت بشكل أساسي في العقدة اللمفاوية المأبضية (خلف الركبة) في غضون 24 ساعة.
كما واصل جزء من الحبر الأسود والأحمر الانتقال إلى عقد لمفاوية أخرى أعمق في الجهاز، حتى العقد اللمفاوية القَطَنية.
وبعد 24 ساعة من الوشم، تبيّن أن الصبغات تتركز في المناطق تحت الكبسولة وفي النسيج اللُبي للعقدة اللمفاوية. إلا أن المعطى الأكثر إثارة للقلق ظهر بعد شهرين من إجراء الوشم؛ إذ لم تنخفض مستويات الصبغة، بل ارتفعت أكثر وتوغلت في طبقات أعمق من العقدة، بما في ذلك منطقة تُسمى “المنطقة ما قبل القشرية” (Para-cortical).
وبصورة مقلقة، أظهرت خزعات من عقد لمفاوية بشرية أُخذت من أشخاص لديهم وشوم في منطقة تصريف تلك العقد منذ عدة أشهر، نمطًا مشابهًا من تراكم الصبغات، ما يشير إلى أن نتائج الدراسة على الفئران قد تكون ذات صلة أيضًا بالبشر.
البلعميات تمتلئ بالحبر ثم تموت
أظهرت الدراسة أن البلعميات (الماكروفاج) – وهي خلايا مناعية كبيرة وظيفتها ابتلاع وتدمير الميكروبات – هي الخلايا الأساسية التي تلتقط وتحفظ صبغات حبر الوشم، بدرجة أكبر بكثير من الخلايا المتغصنة أو أنواع أخرى من “الخلايا الآكلة”.
داخل العقد اللمفاوية، كانت البلعميات في المنطقة اللُبية هي الأكثر امتلاءً بالحبر.
صور المجهر الإلكتروني كشفت مشهدًا مقلقًا:
البلعميات بدت ممتلئة بحويصلات (فجوات) غنية بالصبغة، ومع مرور الوقت ظهرت خلايا عملاقة، كما أظهرت العديد من البلعميات المحملة بالصبغة دلائل بنيوية واضحة على الضائقة والموت الخلوي، مثل فقدان سلامة الغشاء وظهور بروزات مميزة لمراحل الموت الخلوي.
وبالتوازي مع ذلك، لاحظ الباحثون أن عدد البلعميات في العقد اللمفاوية ارتفع بداية ثم هبط بشكل حاد في وقت قصير بعد الوشم؛ إذ سُجلت هذه الهبطة خلال 6–12 ساعة عند استخدام الحبر الأسود والأحمر، ما يشير إلى حدوث موت خلوي واسع.
أما في حالة الحبر الأخضر، فلم تُلاحظ الهبطة في عدد البلعميات إلا بعد 120 ساعة من الوشم.
في تجارب مخبرية إضافية، قام الباحثون بتنمية بلعميات من نقي عظم فئران ومن خلايا دم بشرية، ثم تعريضها لحبر الوشم، فلوحظت سُمية تعتمد على الجرعة: كلما زادت كمية الحبر الممتصة، زادت نسبة موت الخلايا. وتباين توقيت ظهور الموت الخلوي وفقًا للون الحبر.
وشدّد الباحثون في بيان صحفي صادر عن الجامعة على أن البلعميات غير قادرة على تفكيك حبر الوشم، وأن الحبر “يبقى محصورًا في العقد اللمفاوية، ما يؤدي إلى دورة مستمرة من الامتصاص والموت الخلوي، ويُضعف تدريجيًا القدرة الدفاعية للجهاز المناعي”.
التهاب مزمن يستمر لأسابيع وشهور
تسبب الوشم أيضًا في استجابة التهابية قوية ومستمرة في العقد اللمفاوية. وحدّد الباحثون مرحلتين واضحتين:
مرحلة حادة: تميّزت بارتفاع في مستويات السيتوكينات الالتهابية (بروتينات الإشارات المناعية) بلغت ذروتها بين 6 و12 ساعة بعد الوشم، ثم عادت إلى الحدود الأساسية بعد 240 ساعة (10 أيام).
التهاب مستمر: بعض الجزيئات الالتهابية بقيت مرتفعة بشكل ملحوظ خلال أول 240 ساعة وما بعدها.
وكان المقلق بشكل خاص أن مستويات جزيء إنذار نسيجي يُسمى IL-1α ظلت مرتفعة في الدم بعد شهرين من الوشم مع الأنواع الثلاثة من الحبر التي جرى اختبارها.
ولم تقتصر الاستجابة الالتهابية على العقد اللمفاوية فقط، بل ظهرت أيضًا في الدم خلال أول 24 ساعة بعد الوشم.
وفي فحوص أجريت بعد شهرين على الفئران التي وُشمت بالحبر الأسود، سجّل الباحثون ارتفاعًا واضحًا في أعداد خلايا B، وخلايا T، والخلايا القاتلة الطبيعية (NK)، والخلايا المتغصنة في العقد اللمفاوية، إلى جانب مستويات عالية من السيتوكينات الالتهابية، في دلالة على التهاب مزمن متواصل. كما رُصدت اتجاهات مشابهة عند استخدام الحبر الأحمر والأخضر.
حبر الوشم يغيّر استجابة الجسم للقاحات – لكن ليس بنفس الطريقة
أحد النتائج اللافتة في الدراسة أن حبر الوشم يؤثر في استجابة الجسم للقاحات، لكن بصورة مختلفة حسب نوع اللقاح وآلية عمله.
في التجربة، جرى تلقيح فئران موشومة بلقاح mRNA المضاد لكورونا من فايزر-بيونتيك (BNT162b2). وأظهرت النتائج انخفاضًا كبيرًا في مستويات الأجسام المضادة من نوع IgG الموجّهة ضد بروتين RBD الشوكي لفيروس كورونا بعد 10 أيام من التطعيم، سواء أُعطي اللقاح بعد 48 ساعة من الوشم أو بعد شهرين منه.
وكان هذا الانخفاض قائمًا مع جميع ألوان الحبر الثلاثة: الأسود والأحمر والأخضر.
كما وجد الباحثون أن البلعميات في المنطقة اللُبية من العقد اللمفاوية لدى الفئران الموشومة أظهرت تعبيرًا أقل لبروتين الشوكة (Spike) بعد 24 ساعة من التطعيم، سواء في المجموعة التي وُشمت قبل 48 ساعة أو قبل شهرين.
إضافة إلى ذلك، رُصد انخفاض في تعبير جزيئات “المشاركة التحفيزية” المهمة لتنشيط الخلايا المناعية، مثل:
CD86 الذي انخفض في جميع مجموعات الفئران الموشومة بعد 24 ساعة من التطعيم في مجموعة الـ48 ساعة،
وCD80 الذي انخفض في مجموعتي الحبر الأسود والأخضر بعد شهرين من الوشم.
وللتأكد من أن انخفاض إنتاج الأجسام المضادة ناتج عن تأثير موضعي في مكان الوشم وليس عن تأثير شامل على الجهاز المناعي، أجرى الباحثون تجربة إضافية:
قاموا بوشم قدم واحدة للفأر، وحقنوا لقاح كورونا في القدم الأخرى. في هذه الحالة، ظلّت الاستجابة المناعية للقاح طبيعية، ما يثبت أن المشكلة موضعية مرتبطة بمنطقة الحقن/الوشم نفسها.
تجارب على خلايا مناعية بشرية دعمت هذه النتائج؛ إذ جرى تعريض بلعميات بشرية مُستخرجة من خلايا دم بيضاء لحبر الوشم بالتزامن مع لقاح فايزر-بيونتيك، ثم زُرعت مع خلايا B وT من المتبرعين أنفسهم. وبعد تسعة أيام، لوحظ انخفاض ملحوظ في إنتاج الأجسام المضادة من نوع IgG ضد بروتين الشوكة، إلى جانب تراجع في امتصاص اللقاح الموسوم وتعبير بروتين الشوكة في هذه الخلايا.
لقاح الإنفلونزا: تأثير معاكس ومُعزِّز للمناعة
على النقيض من لقاح كورونا، عندما جرى تطعيم الفئران الموشومة بلقاح إنفلونزا يحتوي على فيروس معطّل، كانت النتائج معاكسة تمامًا؛ إذ أظهر الحبر الأسود والأحمر ارتفاعًا واضحًا في مستويات الأجسام المضادة الخاصة بالإنفلونزا بعد سبعة أيام من التطعيم، بينما سجلت مجموعة الحبر الأحمر وحدها ارتفاعًا كبيرًا في أجسام IgG بعد 10 أيام، عندما أُعطي اللقاح بعد 48 ساعة من الوشم.
وعند فحص فئران وُشمت قبل شهرين من التطعيم بالإنفلونزا، ظهر أن الحبر الأحمر وحده ارتبط بزيادة مهمة في أجسام IgM بعد سبعة أيام، في حين أظهر الحبران الأسود والأحمر مستويات أعلى من IgG بعد 10 أيام.
يفسر الباحثون هذا التباين باختلاف آلية عمل اللقاحات:
لقاحات mRNA تحتاج إلى أن تمتصها خلايا الجسم لتنتج المستضد (الأنتيجين) داخلها وتبدأ الاستجابة المناعية.
بينما تحتوي اللقاحات المعطّلة، مثل لقاح الإنفلونزا، على المستضد نفسه جاهزًا، ولا تحتاج إلى هذه الخطوة.
ويفترض الباحثون أن الالتهاب الذي يُحدثه الوشم قد يعمل كنوع من “المادة المساعدة” (Adjuvant) التي تعزز الاستجابة للقاحات المعطلة، بطريقة تشبه أملاح الألومنيوم المستخدمة في بعض اللقاحات.
وفي المقابل، قد يشكل الوشم عامل خطر إضافيًا لدى الأشخاص الذين يتلقون لقاحات تحتوي على فيروسات حيّة مُضعّفة.
وشوم وسرطان الجلد: إشارات مقلقة من السويد
في موازاة ذلك، أشار بحث وبائي نُشر هذا العام على يد باحثين من جامعة لوند السويدية إلى ارتباط محتمل بين الوشوم وارتفاع خطر الإصابة بالميلانوما (أخطر سرطانات الجلد).
حدّد الباحثون، من خلال السجل الوطني للسرطان، 2,880 شخصًا شُخِّصوا بالميلانوما بين سن 20 و60 عامًا، وقارنوا كل واحد منهم بثلاثة أشخاص من نفس العمر والجنس دون إصابة بالمرض.
تم جمع معلومات عن وجود وشوم لدى المشاركين، إلى جانب عوامل أخرى مثل التعرض للشمس، واستخدام فراش تسمير البشرة، ونوع الجلد.
النتائج أظهرت أنه من بين المصابين بالميلانوما، 22% كانوا موشومين، مقابل 20% في مجموعة المقارنة. وبعد ضبط عوامل نمط الحياة المؤثرة، وجد الباحثون زيادة نسبية قدرها 29% في خطر الميلانوما لدى الأشخاص الموشومين.
وقالت الدكتورة كريستل نيلسن، الباحثة البارزة في علم الأوبئة بجامعة لوند:”تشير نتائجنا إلى أن الوشوم قد تكون عامل خطر للميلانوما، لكننا بحاجة إلى مزيد من الدراسات قبل الجزم بوجود علاقة سببية واضحة”.
ويشرح الباحثون أن حقن حبر الوشم في الجلد يجعل الجسم يتعامل معه كجسم غريب، ما يفعّل الجهاز المناعي. تُحاط صبغات الحبر بخلايا مناعية تقوم بحملها عبر السائل اللمفاوي إلى العقد اللمفاوية.
وتوضح الدكتورة أميلي ريتس لِيلِدال، الباحثة في علم السموم بجامعة لوند، أن أصباغ الآزو هي الأكثر شيوعًا في أحبار الوشوم، وأنها يمكن أن تتحلل إلى مواد كيميائية ضارة قد تسبب السرطان، خصوصًا عند التعرض لأشعة UV من الشمس أو أجهزة تسمير البشرة أو جلسات الليزر.
هذا هو البحث الثاني ضمن سلسلة من الدراسات التي يجريها فريق لوند حول الوشوم والسرطان؛ إذ أظهر بحث سابق ارتباطًا ممكنًا بين الوشوم واللمفوما، بينما لم يجد بحث آخر نُشر مؤخرًا علاقة بين الوشوم وسرطان الخلايا الحرشفية في الجلد (SCC).
وتقول نيلسن إن النتائج توحي بأن “شيئًا ما يحدث على مستوى الجهاز المناعي”، ولذلك يواصل الفريق دراسة الروابط بين الوشوم والأمراض المناعية الذاتية مثل الصدفية واضطرابات الغدة الدرقية.
الحاجة لمزيد من الأبحاث والتنظيم
أشار الباحثون السويديون إلى أنه حتى عام 2022 كان سوق حبر الوشوم شبه خالٍ من التنظيم، قبل أن يخضع تركيب الأحبار في أوروبا لإطار تنظيم REACH المتعلق بتسجيل وتقييم وترخيص وتقييد المواد الكيميائية.
ومع ذلك، أظهرت دراسات سوقية أن بعض الأحبار لا تزال تحتوي على مواد سامة تتجاوز الحدود القصوى المسموح بها.
أما الدراسة السويسرية الجديدة المتصلة بجهاز المناعة، فتثير مخاوف صحية إضافية؛ إذ إن الالتهاب المزمن مرتبط في أبحاث عديدة بأمراض واسعة النطاق، بينها السرطان. ويشير الباحثون إلى دراسة حديثة أكدت العلاقة بين التعرض للوشوم وزيادة خطر اللمفوما الخبيثة.
كما يذكّرون بأن المستويات المرتفعة من IL-1α ارتبطت في أبحاث سابقة ببداية نقائل الميلانوما في العقد اللمفاوية، وأن الالتهاب المزمن قد يؤثر أيضًا في “رقابة” الجهاز المناعي واستجابته للعلاج لدى مرضى السرطان الموشومين الذين يتلقون علاجات مناعية.
ويشدد الباحثون على أن هذه النتائج، رغم أهميتها، تحتاج إلى تأكيد في دراسات بشرية أوسع، مع الأخذ في الاعتبار عوامل مثل حجم الوشم، وموقعه في الجسم، ونوع الحبر المستخدم. وتشير تقديرات سابقة إلى أن نحو 2.5 ملغم من الحبر يُحقن في كل سنتيمتر مربع من الجلد في أثناء عملية الوشم.
وتُعد هذه الدراسة حتى الآن الأكثر شمولًا فيما يتعلق بتأثير حبر الوشوم في الاستجابة المناعية.
وختمت الدكتورة جولي غَرلو، المديرة الطبية للجمعية الأميركية لطب الأورام السريري (ASCO)، تعليقها بالقول:
“أنا معجبة جدًا بهذه الدراسة. إنها تقريبًا أعلى مستوى من الأدلة العلمية يمكن أن نحصل عليه في هذا المجال”.













