صوت البلد للأنباء –
كواحدةٍ من أكثر آفات الحرب بروزاً في سوريا، تنتشر ظاهرة الدجل والشعوذة التي بات يمارسها المئات بصورة تنحو باتجاه الانتظام والعلانية، وصارت مورد الرزق والمهنة التي يُخشى أن تتأصل مع الوقت، ليعرض ممارسوها خدماتهم على مواقع التواصل الاجتماعي كفضاءٍ مفتوح يعاب فيه على الجهات المعنية ترك أبوابه مواربةً لممارسات ممنوعة قانوناً.
يقدم أولئك المشعوذون “عشرات الخدمات” لـ”ضحاياهم”، تمتد مروحتها من الأشياء الطريفة إلى المخيفة. ولعلّ أبرز الخدمات التي يعلنون عنها هي “استحضار الأرواح وتسخير الجن وردّ الحبيب والمطلقة والإنجاب وإنجاز الأعمال، والسحر الأسود لإلحاق الأذى بالآخرين”… وغيرها من الأمور المخيفة والمعقدة.
كل تلك الممارسات مكّنت أصحابها من الاستحواذ على عقول شريحة واسعة نسبياً، تلك الشريحة تعرف بـ(الزبائن)، وهي يوماً بعد آخر تتنامى لموجبات وأسباب وركائز تتعلق بتفاصيل مرتبطة بالجهل أولاً، والعقل المؤمن بالسحر ثانياً، وأسلوب المشعوذ ثالثاً.
“اعتقدته سحراً أبيض”
من الأكيد أنّ كل عمليات الاستعانة بالسحرة أولئك بالمطلق انتهت بعمليات نصب واحتيال كبّدت الضحايا مبالغ تبدو خيالية، ومن دون نتائج على الإطلاق، وهذا ما لمسته الشابة غيداء نوران بعد تجربة مريرة مع أحد المشعوذين الذي يتخذ من إحدى قرى ريف دمشق مستقراً له.
تقول غيداء: “علمت بأمر ذلك المشعوذ عن طريق صديقة لي، ادعت أنّ إحدى صديقاتها جربته في أمر وتمكن من إفادتها، وقتذاك كنت أعاني سوء طالع يتمثل بدخولي عامي الخامس دون عمل بعد تخرجي الجامعي، فقصدته، قلت لربما يكون “رجلاً مباركاً”… ثم ماذا، هو سحر أبيض (بنية جيدة) وتحسين طالع، وبالتأكيد سيتمكن من مساعدتي ما دام قد ساعد غيري”.
عملية نصب احترافية
وتضيف غيداء: “استنزفني ذلك المشعوذ مالياً، بدايةً طلب مني مبلغ مليون ليرة سورية (70 دولاراً)، على أن يحصل على مليون ونصف مليون أخرى (مئة دولار) حين حصولي على العمل الذي اخترته. وبالفعل بعد قرابة تسعة أيام تلقيت اتصالاً من شخص ادعى أنّه موظف في إحدى الشركات، مبشراً إياي بأني ظفرت بوظيفة لديهم، على أن يبدأ عملي بعد شهر بالضبط”.
غيداء توجهت لفورها إلى منزل “الرجل المبارك” سعيدةً بما أتاها، تحمل معها بقية المبلغ بكل رضا وسرور، بارك لها ومسح على رأسها بأحد أنواع الزيوت التي تجلب البركة على حد قوله، ولكنّ شهراً مضى ولم يعاود أحد الاتصال بها، راحت للشركة فأنكروا معرفتهم بالأمر، علمت لتوّها أنّها وقعت ضحية نصب محكمة التفاصيل.
غيداء لم تعثر على المشعوذ من جديد، وأوضحت لـ”النهار العربي” أنّها عرفت من جواره أنّه لم يقم سوى شهرين في ذلك المنزل وكان زواره كثراً، فكان يعطي وعوداً بتحقيق الطلبات خلال تلك المدة ليجني كلّ المال الممكن، قبل أن يختفي ليظهر في مكان آخر.
وتتابع: “بالطبع لم أبلغ الشرطة، سأبدو بلهاء، وقد أتحمل مسؤولية قانونية من نوع ما، كذلك أنا العاطلة من العمل والتي تحتاج ليرة لتسد رمقها ضيّعت قرابة مئتي دولار؛ كل دولار فيها ألعن فيه ذلك المشعوذ إلى يومِ يحاسبنا الله”.
السحر ينقلب على طالبه
تروي السيدة جمانة زيدان لـ”النهار العربي” عن صديقة لها أرادت أن تجري سحراً أسودَ لأخت زوجها التي كانت تقيم معهم في المنزل، إثر مشكلات كانت أكثر من أن تحصى بينهما. فاستدلت إلى مشعوذ في منطقة التل بريف دمشق.
وعن قصة صديقتها، تقول جمانة: “لم يطلب المشعوذ بدايةً أي مبلغ مالي، لكنّه طلب من صديقتي أن تحضر شعرة من رأس أخت زوجها، وشيئاً من أثرها، كقطعة قماش من وسادتها أو أي شيء مرتبط بها وهو يتولى البقية، وبالفعل أتته بما ينقصه وتقاضى منها مبلغ سبعة ملايين ليرة (500 دولار تقريباً)”.
وتضيف: “تتالت الأسابيع ولم يتغير شيء، عاودت زيارة المشعوذ الذي استقبلها رامياً البارود فوق البخور والنار لإضفاء جو من الخوف، قائلاً لها: “ملوك الجن رفضوا طلبك ويرسلون لك رسالةً مفادها أنّ زوجة أخيك امرأة صالحة، وإن أتيت عليها بالسحر مجدداً فسيعود عليك مرضاً عضالاً لا شفاء منه. كما يريدون منك طوق الذهب الذي في رقبتك عقوبة لك”.
أمام هول المنظر المخيف بضوئه الخافت وناره المشتعلة، انصاعت صديقتها لطلب المشعوذ وفي جسدها تسري رعشة. وبذلك، بحسب جمانة، راحت صديقتها لتتم عملاً أسودَ فعادت هي “ملبوسةً” بالخوف والسحر وخسارة الأموال.
في حضن المشعوذ
هؤلاء المشعوذون في الغالب يستعينون بمساعدين لهم من الرجال أو النساء، ويحيطون أنفسهم بهالة مريبة ويطلبون من ضحاياهم أشياء معينة، كأثر من الشخص المراد أن يحيط السحر به، كقطعة من ثيابه أو شعره وأشياء مشابهة، إضافة لريش طيور أو أنياب حيوانات ضارية أو دمية قديمة أو صورة له في طفولته أو حجر من شاهدة قبر قريب له أو تربة قبر حتى؛ وما إلى ذلك من الطلبات الغريبة وغير المتناهية والتي تكون جزءاً وركيزة من “عملية النصب” وإقناع الضحية، وسط طقوس تبدو مخيفة وربما مقنعة.
“النهار العربي” تمكن من التواصل مع سيدة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لأسباب مبررة، لقاء ما عاينته من تجربة ما زالت كما تصفها تعيش معها يوماً بيوم. الفتاة التي يمكن اختيار اسم مرام لها على سبيل الاستعارة كانت تنوي ردّ طليقها، لكنّ الأمور سارت باتجاه معاكسٍ تماماً، إذ وجدت نفسها في حضن المشعوذ.
جاهدت مرام كثيراً لتتمكن من رواية قصتها علانيةً، تعتصر الدمعة بعينها مسترجعة عام 2022، العام الذي دخلت فيه منزل المشعوذ بملء إرادتها، ومع استقبال حافل من مساعدته التي وصفتها باللطيفة للغاية حينها.
“لا أدري إن كنت قد اغتُصبت”
تقول مرام باكيةً: “لا أدري ماذا سقوني! ولكني استيقظت بنصف ملابس، لا أدري ماذا فعلوا بي. لا أذكر شيئاً حرفياً، ولا أريد استنتاج شيء، أعيش على أمل أنّه لم يحصل شيء أكثر من ابتزاز لاحق. ولكني حين استيقظت سمعت كلمات وشتائم وألفاظاً نابية وقاسية أكثر قذارةً من أن تقال لفتاة عشرينية من قبل مساعدته التي تحولت لشيء يشبه الوحش”.
تطلب مرام أن تشرب الماء قبل أن تذهب في شرود مريب، مستجمعةً فيه قواها لتكمل: “لا أعرف ماذا حصل، ولكن بعد حفلة الشتائم تلك قالت لي المساعدة: لقد صورنا كل شيء، لنرى ماذا يريد سيدنا منك الآن”، وبعد قليل دخل المشعوذ ذو اللحية الصفراء ليخبرني أنّ “ملك الجنّ أرادني خالصةً لنفسه فأخذني، وبأنّه أمر المشعوذ بتصويري بتلك الحالة”.
ظلّ الشيخ يبتز مرام سبعة أشهر متواصلة، قالت له لاحقاً إنّها صارت خارج البلد ولكنّها سترسل له ما يريده من أموال كل شهر، قالت ذلك لتنجو من أي محاولة ابتزاز جنسي مفترض، وبعد ذلك اختفى أثر الرجل تماماً، دون أن تتمكن مرام في أيّ لحظة من الإبلاغ عنه أو فضحه خشية فضح نفسها.
تقول: “حتى اليوم لا أدري ماذا صوروا بالضبط، ولكن أياً يكن فسيكون كفيلاً أن يذبحني أهلي، وإن لم يذبحوني فسيقتلني المجتمع احتقاراً”. وتتابع: “كل يوم أرفع صلاتي أن يكون قد مات وألّا يظهر في حياتي من جديد فيدمرها ويدمرني”.
في القانون
ورغم آلاف حالات النصب تلك، لا يزال الإقبال مستمراً على أولئك السحرة والمشعوذين الذين تطاردهم الضابطة العدلية وتحاول إلقاء القبض عليهم، ومن ثم تجريمهم.. بيد أنّ المشكلة أنّ المشرّع السوري لم يتخذ في قانون العقوبات نصوصاً قانونية حازمة حيالهم، ما يجعلهم يعودون لممارسة السحر بعد انقضاء مدة حبسهم القليلة. ورغم تنوع حالات الشعوذة والنصب والاحتيال تلك والأحكام القضائية المرتبطة بها، إلا أنّها عموماً غير مشددة، بحسب ما أوضحه المحامي راجي إسماعيل لـ”النهار العربي”.
إذ اكتفى القانون السوري بتجريم تلك الأفعال معتبراً إياها “مخالفات” تخلّ بالثقة العامة فنظمها ضمن المادة (754 – عقوبات)، والتي تنص على:
1 ـ يعاقب بالحبس التكديري وبالغرامة من خمس وعشرين إلى مئة ليرة من يتعاطى (بقصد الربح) مناجاة الأرواح، والتنويم المغناطيسي والتنجيم وقراءة الكف وقراءة ورق اللعب وكل ما له علاقة بعلم الغيب، وتصادر الألبسة والعدد المستعملة. (الغرامة المذكورة تعادل أقل من واحد بالمئة من قيمة الدولار الواحد).
2 ـ يعاقب المكرر بالحبس حتى ستة أشهر وبالغرامة حتى مئة ليرة، ويمكن إبعاده إذا كان أجنبياً.
المحامي إسماعيل يوضح أن تلك العقوبات تنطبق في الإطار العام الذي لا يفضي إلى جرائم جنائية، مشدّداً على ضرورة تعديل قانون العقوبات ليصبح أكثر صرامةً في مواجهةِ آفةٍ يخشى من انتشارها المتسارع والكبير.