صوت البلد للأنباء –
قال(1) أرثر شوبنهاور، الفيلسوف الألماني الأكثر تشاؤما، ذات مرة: “إن كل نوع من الحب، مهما بدا جميلا وأثيرا، ينبع تماما من غريزة الجنس؛ في الواقع، إنها الغريزة المطلقة، هي فقط تظهر في شكل أكثر تحديدا وتخصصا وبصورة شخصية”، وأضاف في موضع آخر أن “تلك المودة المتزايدة بين عشيقين لبعضهما البعض هي في الواقع إرادة للعيش تتبدى في هذا الكائن الجديد، الذي سيصبحان أبويه”.
بدرجة ما، كان شوبنهاور على حق حينما تصور أن البشر يهدفون إلى الإنجاب بشكل أو بآخر، لكنه أخطأ في شيء واحد فقط، وهو أنه اختزل الحب كأداة للجنس، أو كمناورة من أجل تمرير فعل الجنس في مرحلة ما من العلاقة، وكأنه غطاء رومانسي ممتع نقي أنفسنا من خلاله اتهاما بأننا لا نختلف كثيرا عن بقية الحيوانات، وعلى الرغم من البديهية التي تبديها تلك الفكرة، فإنها خاطئة تماما، لكن لفهم درجات الخطأ بها دعنا الآن نذهب إلى الثمانينيات من القرن الفائت.
بينما كان يعمل على توصيف الذكاء الإنساني، تمكّن روبرت ستيرنبرج من جامعة ييل من ابتكار ما سمّاه بنظرية مثلث الحب(2)، في تقرير سابق للكاتب بعنوان “هل هناك حقا ما يسمى بالحب من أول نظرة؟” يمكن لك أن تتأمل تلك النظرية بدرجة أكبر من التفصيل، لكن دعنا الآن فقط نحدد الملامح الأساسية لها، حيث يقول ستيرنبرج إن الحب ما هو إلا اتحاد لثلاثة أضلاع تصنع معا مثلثا واحدا.
الضلع الأول هو “الحميمية”، ويعني الرغبة في الاقتراب من الطرف الآخر ومشاركته المعلومات والشعور بدرجات من التواصل معه، أما الثاني فهو “الشغف”، وهو الأمر الذي تحدث عنه شوبنهاور، والمختص بالانجذاب الجسدي وممارسة الجنس، ثم يأتي الضلع الثالث وهو “الالتزام” ويعني القرار الواعي الواضح بأنك تحب شخصا ما وأنك تود أن تلتزم بتلك العلاقة وتبذل الجهد في سبيل استمرارها، هناك الكثير من أشكال العلاقات، لكن اجتماع تلك الثلاثة هو ما يصنع “الحب”.
دعنا في تلك النقطة نقوم ببعض الحسابات، فعلى الرغم من غزارة إنتاج ذكور البشر من الحيوانات المنوية، فإن الإناث تنتج عددا قليلا جدا من البويضات، حينما يحدث الحمل فإنه علينا الانتظار تسعة أشهر كاملة من أجل الولادة. أضف إلى ذلك أن الرضيع البشري يأتي إلى هذا العالم بقدرة واحدة فقط وهي بلع ما يوضع في جوفه من الطعام الجاهز، دون ذلك لا يتمكّن من فعل أي نشاط، يحتاج الأمر إلى عدد من السنوات -حتّى سن الطفولة أو المراهقة- حتّى يتمكّن بنو البشر من الاعتماد على ذواتهم بدرجة ما، ما يعني ضرورة أن يقوم أحدهم برعايتهم حتّى تلك المرحلة، لكن وجود الأم فقط لأغراض الرعاية لا يمكن بسهولة أن يؤمّن تلك الخطة، بالتالي كان وجود الرجل ضروريا أيضا لإمدادها بالموارد وحماية العائلة.
بحسب ستيرنبرج، فإن الحب إذن ليس مجرد خدعة من أجل الجنس، في الحقيقة قد توجد بعض العلاقات التي تتضمن الجنس فقط بين شخصين، إنها حالات “العشق” وهي بالطبع علاقات لن تستمر كثيرا، لكن لو قررنا الالتفات لأهمية هذا “الاستمرار” في العلاقة، والذي يتطلب وجود التزام من شخص تجاه آخر، لتوصلنا إلى فكرة مهمة في هذا السياق، ماذا لو كان الهدف هو أن تستمر العلاقة إلى أبعد نقطة ممكنة؟ ماذا لو كان وجود الذكر والأنثى معا، بعد ممارسة الجنس، أمرا مهما بأهمية الجنس نفسه؟
الآن دعنا نتأمل كيفية استمرار التعاطف(3) بين الرجل والمرأة، لنتصوّر أنه كانت هناك مجموعتان من العائلات في مرحلة ما من تاريخ البشر قبل مئتي ألف سنة مثلا، الأولى مع رجال لا يمتلكون مشاعر التعاطف لسبب جيني ما، في تلك الحالة يهجر الرجل المرأة بعد ممارسة الجنس ويتركها للحمل والولادة والرعاية والتربية، أما المجموعة الثانية فتوجد مع رجال يمتلكون مشاعر التعاطف، هؤلاء سيقررون البقاء مع العائلة ويستمرون في رعاية الأطفال والاستثمار في تأمين مستقبلهم.
في تلك النقطة يمكن أن نسأل: أي المجموعتين تمتلك فرصة أفضل للاستمرار وتربية أطفال أصحاء؟ بالضبط، الحالة الثانية، بالتالي فإن العائلات التي لم يبق بها الرجل كانت أكثر تعرضا للأخطار من تلك التي بقي بها الرجل، ما يعني تمريرا أفضل لجينات الحالة الثانية فأصبحت في المستقبل أكثر انتشارا، من تلك النقطة ظهر الحب واستمر كمكوّن رئيس لسمات البشر. الأمر بالطبع ليس بتلك البساطة، لكنه فقط مثال لتقريب الفكرة.
بالتالي، يمكن أن يُفهم الحب على أنه غرض إضافي للبقاء جاء في صورة “تعاطف” أو “مودة”، فبجانب ممارسة الجنس من أجل تمرير جيناتنا للأطفال، كان علينا أيضا أن نطوّر مشاعر إضافية تغرينا بالبقاء معا من أجل تأمين مستقبلهم، لكن الأمر لا يقف فقط عند هذا الحد، فنحن نعرف أن تلك السمات التي تجد قبولا لأنها تحسن من تكيّفنا مع البيئة تتنوع وتتفرع لصور أخرى متعددة، في تلك النقطة دعنا نتأمل معا تجارب ديفيد بوس من جامعة تكساس، والذي قرر، قبل نحو عقدين من الزمن، أن يختبر العوامل التي تدفع كلًّا من الرجال والنساء إلى الدخول في علاقة ما.
كانت فكرة بوس بسيطة، استفتاء(4) يحوي 18 صفة، يضع الخاضع للاختبار قيمة لكلٍّ منها ويرتبها من حيث الأكثر أهمية بالنسبة له، كان الهدف الرئيس للدراسة هو فحص الاختلافات بين الرجال والنساء في تفضيلاتهم بالجنس الآخر، قوة هذه المجموعة من التجارب الخاصة ببوس نبعت من عدد المشاركين بها وتنوعهم، فهم نحو 10 آلاف شخص من 36 ثقافة مختلفة بـ 33 دولة، يعني ذلك أن النتائج التي ستخرج من تجاربه ستكون عالمية، يتشارك فيها كل البشر.
في المجموعة الأولى من النتائج، جاء “الحب” ليتصدر اهتمامات البشر في كل الثقافات كواحد من الاختيارات الثلاثة الأولى، بالتشارك مع صفات أخرى يطلبها الشخص في الجنس الآخر كطبيعة الشخصية (عاطفية ويعتمد عليها) ثم بعض الملامح الأخرى مثل كون الشخص ذكيا أو طيّبا أو منفتحا، إلخ، في تلك النقاط الأولى تشابه كلٌّ من الرجال والنساء معا، ثم في المجموعة الثانية من النتائج جاءت الاختلافات حيث فضّل الرجال شكل المرأة وجسمها بينما فضّلت النساء موارد الرجل، ويُقصد هنا -في العموم- الوضع الاجتماعي والوظيفي له.
تكررت تلك النتائج(5) في أكثر من دراسة وضمن نطاقات ثقافية مختلفة. يعني ذلك أننا، نحن البشر، قد طوّرنا على مدى تاريخنا تفضيلا للحب كسبب رئيسي للدخول في علاقة ما، بينما حلّت الاهتمامات المتعلّقة بالانجذاب الجسدي مرتبة تالية، ما يعني أننا كنّا قادرين على خلق ذلك الإصلاح المهم والذي نسميه “الثقافة” في مقابل الغريزة المباشرة والتي تطلب إلينا دائما أن نلتفت للأمر البيولوجي فقط.
بل وفي دراسات تالية(6) لـ بوس، حاولت اختبار تفضيلات الجنسين عبر الصور، أشارت النتائج إلى أن الأفراد من الذكور ذوي الرغبة في علاقات طويلة الأمد مع الجنس الآخر كانوا أكثر اعتمادا في تفضيلاتهم على وجوه النساء وليس أجسامهم. ورغم أن التفضيلات الجسدية هي معيار رئيس للخصوبة، بحسب دراسات سابقة لـ “ديفندرا سينه” من الجامعة نفسها، فإنها تُهمل بدرجة واسعة في حالة الرغبة في الاقتراب من شخص ما بغرض الحب، لأن الحب كما قلنا منفصل عن الجنس، حتّى باحتوائه للجنس كأحد العوامل الرئيسية لاستمراره.
يأخذ جوزيف هينريش، أستاذ الأنثروبولوجيا واسع الشهرة من جامعة هارفارد، تلك الفكرة إلى نقطة أكثر عمقا، فهو يرى أن المعايير الاجتماعية (social norms) بالنسبة للبشر لم تكن فقط(7) أدوات قمنا بتطويرها للحصول على أفضل النتائج من أجل البقاء، بل أصبحت أهدافا لذاتها نتفنن في تطويرها ونعمل بها ومن أجلها، لذلك يتصوّر هينريش أن اختيارات الذكور والإناث من بني البشر، في بعضهم البعض، قد تطورت ثقافيا مع الزمن، بمعنى أن تفضيلاتهم لوجود الحب في العلاقة قد تصاعدت بصورة كبيرة خلال العقود القليلة السابقة فقط، بل وأضيفت مجموعة أخرى من العوامل.
الشراكة على سبيل المثال كانت أحد تلك العوامل، والدعم النفسي. بل وفي معظم البلدان المتقدمة، بحسب هينريش(8)، تحول الزواج من كونه عهدا يقوم على المسؤوليات والوفاء المتبادل فقط إلى علاقة ترتكز على الرضا الشخصي، بمعنى أن كل طرف يبحث عن حميمية أكبر ونمو ذاتي أفضل من خلال التواصل المفتوح والتعبير عن المشاعر مع شريكه. بحسب هينريش، فإن ذلك المنطلق الفرداني هو أحد المعايير الرئيسية المعاصرة لتقييم جودة الزيجات من عدمها أو كمحدد للإقدام عليها. بمعنى أوضح، إذا كانت الإجابة عن أسئلة مثل: هل أشعر بالرضا عن نفسي بشكل أفضل في تلك العلاقة؟ أو هل ستجعلني تلك العلاقة الجديدة أشعر بالرضا عن نفسي؟ بـ “نعم” فإن ذلك هو معيار لعلاقة جيدة ومطلوبة.
في النهاية، فإن التعامل مع الحب على أنه مجرد مناورة من أجل ممارسة للجنس لهو اختزال فج. نحن البشر كائنات معقدة، بالطبع نهدف جميعا إلى الغرض نفسه كبقية الكائنات الحية، وهو البقاء وتمرير جيناتنا، لكننا تمكّنّا عبر “الثقافة” من التفنن في تطبيق تلك القاعدة، ابتكرنا الملابس، والموسيقى، والرسم، والشعر، وطوّرنا الكتابة، عبر تاريخنا الطويل كنّا قادرين على التواصل بصورة فائقة، وبجانب ذلك كله أعطينا اهتماما فائقا لمشاعر الحب بيننا، فما بدأ بالأساس كحالة من التعاطف تطور ليصل إلى ما نعرفه عن الحب.
من روميو وجولييت، إلى قيس ابن الملوح، إلى عنترة ابن شداد، من الروايات إلى الأشعار والهدايا وقواعد الزواج التي تبدأ بالخطبة وصولا إلى كل تفاصيل العُرس، الفستان والبزة والفرقة الموسيقية التي ستعزف إحدى أغنيات عمرو دياب أثناء رقصة الافتتاح، إذا تأملت تاريخنا الطويل ستجد أن كل ذلك التعقّد قد ظهر شيئا فشيئا بتدرّج بديع في ثقافتنا، يبدو الأمر وكأننا كنّا، على مدى تاريخ طويل بائس في بعض الأحيان ومبهج في البعض الآخر، نحتفل بالحب.