صوت البلد للأنباء –
طرح القرار الابتدائي الذي أصدرته محكمة العدل الدوليّة سلسلة من الأسئلة التي إن بقي بعضها من دون إجابة، أصاب الالتباس فهم التدابير الاحترازية التي اتخذها، بالأكثرية الساحقة، القضاة السبعة عشر الدوليون وبينهم ثلاثة عرب: من لبنان (نوّاف سلام) والمغرب (محمد بنونة) والصومال (عبد القوي يوسف).
ولعلّ السؤال الأوّل الذي شغل الجميع يتمحور حول الأسباب التي منعت محكمة العدل الدوليّة، على الرغم من إقرارها بفظاعة ما يتعرّض له الفلسطينيّون، من إصدار أوامر بوقف فوري للحرب التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة.
إنّ الجواب عن هذا السؤال يفترض قراءة كاملة للقرار الذي أصدرته المحكمة، إذ إنّه، ولو وقف ضد إسرائيل في ما نطق به كبار مسؤوليها وما تتخذه حكومتها من إجراءات ضد تمكين الفلسطينيين من الوصول الى الطعام والطبابة والأمان والسلامة، اعتبر أنّ حركة “حماس” قد تسبّبت بهذه الحرب، من خلال هجومها في السابع من تشرين الأوّل (اكتوبر) الماضي، على غلاف غزة في جنوب إسرائيل، وما نتج منه من دمار ورعب وقتل وأسر.
وقد كان هذا واضحًا في مستهل القرار الذي أصدرته المحكمة، إذ إنّها في سياق ما سمّته وضع إطار للقضية المعروضة أمامها، بدأت الوقائع بالحديث عن هذا الهجوم.
وبهذا المعنى، فإنّ محكمة العدل الدوليّة تقاطعت مع إسرائيل، إلى حد ما، في اعتبار أنّ الحرب على قطاع غزّة، هي “حرب دفاعية”.
ولا تملك المحكمة، وفق منطوق القوانين الدولية، أيّ حق في التصدي لأيّ دولة إن هي شنّت “حرب الضرورة” بعد تعرّضها لهجوم.
وما أعطته المحكمة لإسرائيل من حق في شنّ حرب ضد قطاع غزة، يمكن فهمه بمجرد مراجعة قرار هذه المحكمة، عندما انتزعته من موسكو في الدعوى التي رفعتها كييف ضدها، إذ اعتبرت أنّه لا يوجد أيّ مبرر يعطي روسيا الغطاء القانوني لشنّ حرب ضد أوكرانيا، فهي لم تتعرّض لأيّ اعتداء يشكل خطرًا عليها.
وهذا يعني أنّ محكمة العدل الدوليّة لم تذهب إلى حيث أرادتها جنوب إفريقيا أن تذهب، حين اعتبرت أنّ إسرائيل دولة تعتدي على الفلسطينيين منذ نشأتها، وبالتالي رفضت المحكمة إدراج ما أقدمت عليه “حماس” في السابع من تشرين الأوّل( اكتوبر) الماضي، في إطار “المقاومة”، بل وصفته ضمنًا بالاعتداء العسكري على دولة إسرائيل وأعطتها بالتالي حق الرد.
ولهذا، أسقطت محكمة العدل الدوليّة مطلب جنوب إفريقيا إصدار أمر لإسرائيل بوقف الحرب.
وكان واضحًا في سياق القرار أنّ محكمة العدل الدوليّة لم تتعاطَ بأيّ إيجابية مع “حماس” التي لا تُعتبر طرفًا في هذه الدعوى، إذ إنّها ليست دولة ولا كيانًا يتمتع بأيّ صفة معنوية، بل بدت قاسية عليها، لجهة فصلها، عن الشعب الفلسطيني الذي يعيش في قطاع غزة، ولجهة طلب الإفراج الفوري عن الأسرى الإسرائيليّين.
ولكنّ عدم اتخاذ المحكمة أيّ تدبير احترازي يقضي بإلزام إسرائيل بأن توقف الحرب ضد “حماس”، ترافق مع تشدد كبير من المحكمة ضد الحكومة الإسرائيليّة التي تشرف على هذه الحرب، متهمة إيّاها، بشكل لا يقبل أيّ لبس، بخرق اتفاقية الإبادة الجماعية، بكل ما يتصل بسكان غزة: القتل، التدمير، الحرمان من الطبابة الإستشفاء، التجويع، التعطيش، الحصار، والتحريض.
وقد كان لافتًا للانتباه أنّ محكمة العدل الدوليّة رفضت الحجج التي قدّمها فريق الدفاع عن إسرائيل لتبرير المواقف التحريضية ضد فلسطينيّي قطاع غزة الصادرة عن كبار المسؤولين الإسرائيليين يتقدمهم رئيس الدولة اسحق هرتسوغ ووزير الدفاع يوآف غالانت، وإن تجاهلت أبعاد النصوص الدينية التي كان قد استعملها رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو في التجييش للحرب على قطاع غزة.
ومن ضمن التدابير الإحترازية التي طلبت المحكمة من الحكومة الإسرائيلية اتخاذها معاقبة جميع من يحرضون ضد الشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق، يبرز السؤال الثاني: كيف يمكن للمحكمة التي أدانت السلوك الحكومي الإسرائيلي أن تعهد بتنفيذ الإجراءات الإحترازية إلى الحكومة نفسها؟
قد يبدو هذا التدبير غير منطقي ولكنّه يتوافق مع القانون الدولي، إذ إنّ محكمة العدل الدوليّة، في القرارات الإبتدائية التي تأخذها، غير مخوّلة إصدار أحكام نهائيّة باعتبار أنّ لهذه الأحكام آليات وأصولًا يستغرق الإلتزام بها سنوات قد تطول جدًّا.
ولكن عمليًّا، فإنّ الحكومة الإسرائيلية، ولا سيّما الفئات المعنيّة بإدارة الحرب، ليست كيانًا واحدًا، بل هي حكومة طوارئ مشكلة من أطراف عدة، ويمكنها، بالتالي أن تحاسب بعضها بعضاً، على الماضي، وأن تلزم بعضها بعضاً، بالحاضر والمستقبل.
وهاجس محكمة العدل الدوليّة، في قرارها الابتدائي هو الاحتراز، بكل ما يعني هذا التعبير من سلوك مستقبلي، في حين أنّ عدم اتخاذ الحكومة الإسرائيليّة أيّ إجراءات عقابية ضد السلوك السابق، يمكن أن يضرّها في المحاكمة في الدعوى الأساس، أي ارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة، خصوصًا بعدما اعتبرت المحكمة نفسها صاحبة اختصاص للنظر فيها.
ومعلوم في هذا السياق، أنّ إثبات توافر النيّة هو حجر الأساس في قضايا الإبادة الجماعيّة.
وإبقاء إسرائيل للمحرضين من دون عقاب، قد يكون دليلًا مستقبليًّا ضدها على توافر النيّة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة.
بالمحصلة من خدم هذا القرار؟
إنّ التدقيق بحيثياته يُثبت أنّه لا يتقاطع مع إرادة طرفين أساسيّين: اليمين الإسرائيلي، من جهة و”جبهة المقاومة”، من جهة ثانية.
ويبدو واضحًا أنّ اليمين الإسرائيلي يريد حربًا بلا ضوابط ضد قطاع غزة، في حين أن “جبهة المقاومة” تريد وقفًا سريعًا للحرب.
ولم تتقاطع المحكمة مع هذين الطرفين المتطرّفين، بل ذهبت أكثر في اتجاه التقاطع مع القرارات التي أصدرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ويتبنّاها علنًا الرئيس الأميركي جو بايدن، وإن كانت بلاده قد صوّتت ضدها، والاتحاد الأوروبي وأكثرية الدول العربيّة.
إنّ الهاجس الإنساني الخاص بفلسطينيّي غزة هو الذي انتصر، بالنتيجة، وعلى إسرائيل التي سيبقى سيف العدالة الدولية مصلتًا فوق رأسها، أن تقدّم، بمهلة شهر، تقريرًا مفصلًا للمحكمة عن الإجراءات التي اتخذتها استجابة للقرار الإبتدائي، في حين أنّ جنوب إفريقيا سوف تقدّم للمحكمة، بدورها، تقريرًا يبيّن إن كانت هذه الحكومة قد التزمت حقًا بما يمكن أن تورده في تقريرها!