صوت البلد للأنباء –
عملياً لا يمكن اعتبار تدمير الجيش الإسرائيلي جزءاً لا يستهان به من المستشفى الميداني العسكري الأردني في مدينة خان يونس، وهو المستشفى الثاني في قطاع غزة، إلا رسالة بالنار والرصاص مجدداً، حتى وإن كانت الدلالة سياسية بامتياز. هذا الاعتداء وبهذه القسوة والخشونة يعني أن إسرائيل تبدو منزعجة جداً من حراك الأردن الدبلوماسي النشط في الاتجاه المضاد لها.
لكن الأهم في «المعيار الأردني الوطني الداخلي» أن اعتداء من هذا الطراز يقضي على الاحتمالات فيما يتعلق بالبيروقراطية المحلية التي تفترض أن إسرائيل يمكن أن «تعود إلى صوابها» أو تلك التي تشير إلى أن «الإطار العميق» في دولة الاحتلال لا يزال يعتبر في ذراعه العسكرية مصالح الأردن في المساحة الآمنة بين طرفين.
عملياً، وفي آخر إطلالاته العلنية عصر الخميس، اعتبر وزير البلاط الأردني الأسبق الدكتور مروان المعشر، أن العلاقات الأردنية- الإسرائيلية بعد كل ما حصل ويحصل يمكنها أن «تعود كما كانت».
تغيير «قواعد الاشتباك»
ثمة من يريد نفي الاستنتاج الذي تتوصل إليه شخصية معتدلة وخبيرة مثل المعشر، بل تقديم أدلة على عكسه، فيما يتولى الاعتداء التدميري لوجستياً على المستشفى الأردني في خان يونس ويتكفل بإخفاق هذه المهمة، نقصد الأدلة على أن العلاقات القديمة مع إسرائيل يمكنها أن تعود.
ولأغراض تحديد وترسيم وتشخيص المسألة سياسياً، يمكن اعتبار تدمير هذا الجزء من المستشفى خطوة إسرائيلية متقدمة تغير في نمط قواعد الاشتباك وتهدف إلى ضرب مفهوم ما يسمى بالمسار الأردني في المساعدات والغذاء والإغاثة، وهو المسار الذي اتفق عليه الأردن مع دولة مثل فرنسا.
بمعنى أو بآخر، لا تقرأ العملية الإسرائيلية العسكرية التي استهدفت المستشفى الميداني الأردني في عمان على الأقل إلا في سياق أنها تهديد وتلويح إسرائيلي بضرب مسار يحظى بتوافق المجتمع الدولي، ويختص بأن يقدم الأردن المساعدات الإغاثية لأهل قطاع غزة بغطاء أمريكي وبالشراكة مع فرنسا.
المستشفى الميداني الأردني الأول والثاني تلقيا في عملية إنزال مظلي مشتركة قبل نحو 10 أيام للمساعدات من فرنسا والأردن معاً، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الذي تولى الاتصال والتنسيق بشأن هذا الإنزال المظلي وبشأن أصلاً ما يسمى بالمسار الأردني مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.
العلاقات معها «لن تعود» وضرب المستشفى الميداني عقّد الموقف
الإجراء الإسرائيلي ضد المستشفى العسكري الميداني الأردني بعدما أصيب بسببه بالرصاص والشظايا شخصان على الأقل هما مريض وأحد العاملين من العناصر الأردنية، إنما يعيد إنتاج المشهد المتعلق بالمسار الأردني؛ بمعنى أن تل أبيب تقايض رغبة الأردن الملحة في تقديم المساعدة لأهالي غزة لتعزيز صمودهم بوقف الحراك الدبلوماسي الأردني، خصوصاً في الجزء المتعلق بالمحاكمة التي ترغب بها دولة جنوب إفريقيا تحت عنوان الإبادة الجماعية لدى محكمة العدل العليا، حيث الضغط شنيع وشديد في هذا الاتجاه، وحيث يطور الأردن خطواته في دعم تلك الدعوة المسجلة من تقييم مرافعات مكتوبة إلى حضور جلسات الاستماع والتقدم بوثائق وإفادات في خطوة متطورة، ما يعني أو تعني تكليف وفد أردني بالبقاء في محكمة لاهاي.
بكل حال، إسرائيل تقول ضمناً إنها قد تعيق أيضاً المساعدات الطبية الأردنية التي حظيت قياساً بغيرها طوال فترة الصراع العسكري والعدوان على قطاع غزة، بقدر من الاستقلالية عبر سلسلة كبيرة من توجيه القوافل البرية سواء عبر معبر رفح أو عبر معبر كرم أبو سالم براً من الأغوار، وعبر الإنزالات المظلية. وهنا ضمناً تقول تل أبيب بمقايضتها، إن ما تسميه هذه السياقات في تمكين الأردن من تقديم المساعدة قد يتم ضربه، ولا سبب يمكن افتراضه لهذا الإجراء الإسرائيلي الخشن إلا دور الأردن الأساسي في كواليس محكمة العدل العليا في لاهاي، خصوصاً مع وجود شخصيات أردنية بارزة وخبيرة، من بينها نائب رئيس محكمة العدل العليا سابقاً، ورئيس الوزراء الدكتور عون الخصاونة، وآخرون. عقدة «لاهاي» عملياً تضرب منظومة الاتصالات المترنحة أصلاً بين عمان وتل أبيب. الموقف يوحى بالمزيد من التشدد وبانهيار منظومة الاتصال والتواصل ضمناً بين تل أبيب وعمان، خلافاً لأنه يوحي بكل حال بالصعوبات والاعاقات التي يمكن أن يتعرض لها مسار التكيف الأردني مع اليمين الإسرائيلي، حيث يقال دوماً في كواليس الإطار إن بين مبررات عدم قطع العلاقات تماماً مع الإسرائيليين هو بقاء تدفق المساعدات والمستشفيات.
إن الجزء المتبقي من منظومة الاتصال تخصصه عمان لدعم صمود الأهل في قطاع غزة والضفة الغربية. بمعنى، تريد عمان حتى وهي في حالة اشتباك استثنائية دبلوماسياً مع الإسرائيليين، البقاء في منطقة مناورة تسمح لها بإرسال طائرات إلى قطاع غزة لإنزال مساعدات طبية، وبإرسال قوافل عبر منطقة الأغوار إلى جنوب قطاع غزة، كما تسمح لها تلك المنطقة بالبقاء في إطار يسمح بدعم المواد الغذائية والقمح والمحروقات إلى بعض مناطق ومدن الضفة الغربية.
«المساعدات من أولويات الأردن»
ولمح لشيء من ذلك وزير الخارجية أيمن الصفدي، عندما تناقشت معه «القدس العربي» بالزوايا والتوازنات وتدويرهما، معرباً عن أن المساعدات هي من أولويات بلاده الأساسية.
لذا، الهجوم على المستشفى الميداني في خان يونس هو تلويح إسرائيلي مباشر بالضغط على الأردن لضرب فكرة ومنطق ما يسمى بالمسار الأردني في المساعدات، الذي تهتم به القيادة الأردنية بكثافة بعد تمكينها عبر منطقة الأغوار فقط من إرسال أكثر من 120 شاحنة محملة بمساعدات. فوق ذلك، المنظمات الدولية المهتمة مثل البرنامج الدولي للغذاء واليونسكو وغيرهما، اجتمعت في قمة خاصة لها بعمان لدعم وإسناد هذا المسار الذي انضمت له فرنسا وتفاعلت معه دول أوروبية أخرى. في المقابل، الخطوة الإسرائيلية ضد المستشفى الميداني الأردني تنطوي على نوع من الاختبار الدقيق لمدى جدية إظهار قدرة الأردن على إرسال المساعدات. وما تقوله تل أبيب ضمناً أنها في موقع يسمح لها بضرب هذه القدرات اللوجستية، ما يسبب حرجاً كبيراً لعمان ولحلفائها في واشنطن وباريس وغيرهما من العواصم الغربية، وما يعني أيضاً إنتاج المزيد من الضغط على دوائر القرار الأردنية بخصوص معادلات الداخل والإقليم.