صوت البلد للأنباء –
يبدو أن أزمة نتنياهو الداخلية وأزمة بايدن الداخلية إلى جانب قضية الرهائن والخسائر الفادحة التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي خلال تقدمه في قلب غزة، تشكل بمجموعها عوامل حاسمة في النزول عن شجرة الأهداف المستحيلة التي وضعتها القيادتان الإسرائيلية والأميركية للحرب.
كلما تقدمت الحرب أو هي اقتربت من تحقيق حسم عسكري، كما يتصورون، يلح السؤال السياسي الذي تقف وراءه قضية شعب هُجر وقُتل واقتلع وجرى تدمير وتمزيق كيانه الوطني منذ 75 عاما، وينجلي الدمار في غزة كجزء واستمرار لحرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني بهدف إخفائه عن الخارطة الجيوسياسية كشرط لتوسيع وتثبيت المشروع الكولونيالي الصهيوني في فلسطين، كما تنجلي العلاقة العضوية التي تربطه بالغرب الاستعماري الذي اصطف بقياداته وأساطيله، بل وتقود جنرالاته حرب الإبادة على هذا الجزء “المتمرد” من الشعب الفلسطيني بهدف إخضاعه.
أبراهام بورغ يُضيء في مقال نشرته “هآرتس” على الخطاب الرسمي والشعبي الإسرائيلي المرافق للحرب، فيقول إن الانتصار قديما تمثل بإحضار رأس العدو المقطوعة وعرضها في الساحات، أو جلب الملك مقيدا في مسيرة إذلال واغتصاب نساءه على مرأى من الشعب وبيع رعاياه في سوق العبيد، وإذا ما أنصتنا إلى صوت الجمهور الإسرائيلي وصداه في الحكومة، لا نجده بعيدا عن التوراة القديمة، “امحو ذكر عماليق – الفلسطيني من تحت السماء”، “تسوية غزة بالأرض وتحويل خرائبها إلى متنزهات”، “السنة القادمة في غزة المستوية”، “لنطرد الفلسطينيين ونستوطن مكانهم”، “لنكوي وعيهم بأنهار من الدماء”، وكل ذلك بأسلوب استكمال مهمات النكبة التي لم نتمكن من استكمالها عام 1948، على حد تعبيره.
بورغ يقول إن هذا الخطاب الذي يتجاهل الفلسطينيين بدأ من مقولة “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، واستكمل من قبل غالبية رؤساء الحكومة وصولا إلى أريئيل شارون والخروج أحادي الجانب من غزة، وشبكة الشوارع الالتفافية والجدران الفاصلة بين الإسرائيليين والواقع، ولكن كل ذلك لم يغير من واقع وحقيقة أنهم هنا.
ومن الواضح أن جميع العدوانات والحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين، وخاصة تلك التي انتهت بانتصار عسكري عليهم، وهي الغالبية، فإن إسرائيل لم تتمكن من محو وجودهم وقضيتهم السياسية فكانوا يدفنون موتاهم وينهضون من تحت ركام الحرب، لترتفع راية قضيتهم مجددا وتصبح أكثر علوا، هكذا حصل بعد حرب لبنان وحصار بيروت وبعد الانتفاضة الثانية وحرب “السور الواقي” والعدوانات المتكررة على قطاع غزة، التي تمنى رابين أن تغرق في البحر ولم يتمكن شارون من محوها عن الوجود فانسحب منها مضطرا، ولكنها ظلت تقاوم لاستعادة وطن هي تشكل 1% من مساحته.
نقول ذلك بغض النظر عن نتائج “الحرب العالمية” التي تشنها إسرائيل على غزة، علما بأن المحللين العسكريين الإسرائيليين أنفسهم يتحدثون عن مقاومة باسلة ومعارك ضارية تعيق تقدم الجيش الإسرائيلي ويرجح أن تمنعه من تحقيق أهدافه العسكرية أيضا، حيث يقول المحلل العسكري ألون بن دافيد، إن “مقاتلي حماس يبدون روحا قتالية عنيدة، لم يستسلموا في أي موقع وقاتلوا حتى الموت، ما يعني أن التحدي أمام قواتنا سيكون أكثر صعوبة في قلب غزة”، على حد تعبيره.
ورغم إشارته إلى صعوبة إنهاء المعركة بالقضاء على القيادة العسكرية والسياسية لحماس، فإن الحلقة الأضعف في الجبهة الإسرائيلية، تتمثل، برأي المحلل السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، ناحوم برنياع، في بنيامين نتنياهو، الذي لا يريد حسما في غزة لأن بعده ستأتي لجنة التحقيق وعملية إقالته، وهو يفضل لهذا السبب عملية طويلة وغير حاسمة يجري وقفها من قبل الأميركيين في مرحلة معينة.
في غضون ذلك، فإن الحديث عن اليوم التالي بعد الحرب، بالتعبير الإسرائيلي، مبكر جدا لأن حماس بعيدة جدا عن الاستسلام، كما يقول المحلل العسكري، عمير رابابورت، الذي يرى أن فكرة إخراج قيادات حماس من قطاع غزة مقابل تحرير الرهائن الإسرائيليين لا تتعدى كونها رغبة إسرائيلية، لأن نهاية الحرب لا تبدو في الأفق، بينما تخسر إسرائيل في المقاييس الثلاثة المهمة، الوقت والمال والمصداقية، بلسان ناحوم برنياع، الذي يرى أن المرحلة الأولى للحرب كانت تتطلب التحرر من الصدمة وإنزال حمم النار على رأس غزة من الجو والبر والبحر، فيما كانت العملية البرية في غزة هي المرحلة الثانية، ويفترض أن تكون المرحلة الثالثة هي تسوية مسألة السلطة في غزة، وهو ما لا تمتلك الحكومة الإسرائيلية خطة مبلورة بشأنها، ولا هي قادرة على شرح الطريق الذي تفضي به المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة
هذا رغم ظهور العديد من المؤشرات التي تفيد بأن مدة الضوء الأخضر الذي تعطيه أميركا والغرب لإسرائيل لإنهاء عمليتها العسكرية بالقضاء على حماس بأي ثمن تقترب من النفاذ، خاصة وأن الجاليات اليهودية في العالم قلقة من أن انتشار صور القتل والدمار الإسرائيلي من غزة والتي بدأت تأخذ صفة إبادة جماعية، ستجعل المراكز الجماهيرية اليهودية أهدافا مشروعة، كما تقول الصحافية أورلي أزولاي من “يديعوت أحرونوت”.
أزولاي تشير إلى هبوط في شعبية بايدن داخل حزبه، بعد غضب الجناح اليساري الليبرالي عليه بسبب دعمه المطلق لإسرائيل وتجاهله لضائقة غزة، وهو ما يدفع بالبيت الأبيض لإعداد خطة سياسية بالتعاون مع أوروبا ومشاركة السعودية التي تسعى لإبرام معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة.
وتشمل هذه الخطة، وفقا للصحافية الإسرائيلية، في مرحلتها الأولى وقفا لإطلاق النار لتسهيل عملية تبادل أسرى، بعدها تأتي مرحلة الحل السياسي المؤقت الذي ستنتقل بموجبه إدارة غزة إلى جسم فلسطيني متعدد الفصائل، كما تأمل واشنطن، وهو ما يشكل أساسا لحل مستقبلي يقوم على دولتين ويجري في إطاره ربط غزة بجسر جوي بالضفة الغربية.
وفي التلخيص، يبدو أن أزمة نتنياهو الداخلية وأزمة بايدن الداخلية إلى جانب قضية الرهائن والخسائر الفادحة التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي خلال تقدمه في قلب غزة، تشكل بمجموعها عوامل حاسمة في النزول عن شجرة الأهداف المستحيلة التي وضعتها القيادتان الإسرائيلية والأميركية للحرب.