صوت البلد للأنباء –
في اليوم السادس للحرب، يتواصل القصف الوحشي الأعمى على قطاع غزة، بما يرتقي لجرائم حرب وسط دعم غربي ومحاولات إسرائيلية متتالية لشيطنة “حماس” والفلسطينيين، وإلصاق وصمة “داعش” بهم، وإجماع الإسرائيليين على الانتقام ومحاولة ترميم الهيبة الجريحة، لكن السؤال المطروح الذي يشغلهم ويثير نقاشات يدور حول إمكانية اجتياح بري بعد هذا التدمير عن بعد، متى، وكيف يتم ذلك، وهل يشعل هذا جبهات أخرى، وسط تحذيرات متزايدة من سيناريو “وحدة الساحات”.
رغم الترهيب وسياسات الضغط السريع على الزناد تحذر جهات إسرائيلية من احتمال تفجّر الساحات الأخرى، في الضفة الغربية وداخل أراضي 48 وفي الجبهة الشمالية، خاصة بحال استمرت المذابح في غزة أو التعرض لمقدسات، وعلى رأسها “الأقصى”، كما حصل في “هبة الكرامة” في مايو/أيار 2021.
وبعدما بدأت إسرائيل تستفيق من صدمتها عقب الضربة الإستراتيجية (طوفان الأقصى) تحذر جهات إسرائيلية من مغبة التصرف بشكل أهوج غير مدروس بغية الانتقام فحسب، ومن الاجتياح البري التقليدي لقطاع غزة، ويدعون لتحاشي الشعارات العالية، ولتحديد أهداف الحرب بشكل واضح للمستوى العسكري.
في مقال نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية، قال الجنرال في الاحتياط غابي سيبوني، الباحث في معهد “القدس للإستراتيجيا والأمن: “إن حماس نجحت بمباغتة إسرائيل، وضبطها بحالة سبات وفشل، بنَت قدرات عملياتية هجومية بدرجة عالية جداً”. وأمام استمرار تفجّر حالة الغضب على الدولة والحكومة والجيش في الشارع الإسرائيلي المصاب بالصدمة والذهول، يدعو سيبوني إلى تأجيل المحاسبة والمساءلة ريثما تنتهي الحرب على غزة.
ويقول سيبوني إنه سيكون لدينا ما يكفي من الوقت لتحليل أسباب الانهيار المطلق للمنظومة الأمنية على الصعيدين الاستخباراتي والعملياتي. ويحذر من “التحام الساحات”. ويرى أن أحد السيناريوهات الخطيرة التي يمكن أن يواجهها الجيش هو التعامل مع معركة متعددة الأبعاد، يتم فيها دمج جميع الجبهات؛ بالإضافة إلى جبهة غزة: جبهة لبنان، عبر “حزب الله”، وتنظيمات فلسطينية أُخرى؛ تفعيل “الميليشيات” الشيعية في هضبة الجولان؛ عمليات “إرهابية” في الضفة؛ انضمام العرب في إسرائيل إلى القتال، عبر إغلاق المحاور والطرقات واختراق قواعد الجيش والقيام بعمليات قتل في المجتمع اليهودي و”البلدات المختلطة” وغير المختلطة، كل هذا يمكن أن يكون بتوجيهات وتفعيل من إيران”.
تأجيل هجوم متعدد الجبهات
ويقول سيبوني إنه في مقابل هذه السيناريوهات، يجب العمل فوراً على بُعدين: الأول، هو التعريف الواضح لأهداف الحرب بطريقة تسمح للجيش بتركيز الجهود وتفعيل القوة بشكل يدفع أكثر ما يمكن إلى عزل منطقة العمليات، أو على الأقل، تأجيل هجوم متعدد الجبهات على إسرائيل؛ أما الثاني، فيتطرق إلى الحاجة إلى إجراء إصلاح عاجل على مستوى قيادة سلاح البر في الجيش بطريقة تسمح له بتحقيق الأهداف الإستراتيجية التي وضعها المستوى السياسي بأفضل ما يمكن. لافتاً إلى أن العمل الدبلوماسي أيضاً يمكن أن يساعد للتأكد من أن قيادة “حزب الله” ولبنان يعرفان جيداً الإسقاطات الهدامة على لبنان، في حال فُتحت الحرب في هذه الجبهة.
ويمضي في تحذيراته: “كذلك علينا أن نرفع جاهزيتنا للأحداث داخل حدود الدولة. لذلك، يجب فوراً تجنيد جنود احتياط لدى الجيش وعدم الاكتفاء بقوات الشرطة والحرس المدني. حجم هذه القوات لن يستطيع التعامل مع سيناريوهات يمكن أن تكون شبيهة بما حدث خلال عملية “حارس الأسوار”(هبة الكرامة في مايو/أيار 2021).
الأهداف المطلوبة
وحول الأهداف المطلوبة برأيه، يقول سيبوني: “يجب أن تكون أهداف القتال واضحة للجيش: اغتيال قيادات “حماس” السياسية والعسكرية كلها، إلى جانب هدم البنى العسكرية للحركة، وبقية الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بشكل يمنعها من إعادة ترميم قدراتها العسكرية لسنوات طويلة. لتحقيق هذا الهدف الأعلى، على الجيش التحرر من قيود الماضي، والقيود التي فرضها على نفسه، بالأساس إزاء كل ما يخص سياسة تفعيل القوة. لتحقيق هدف كهذا، يمكن أن يكون المطلوب احتلال غزة، أو أجزاء منها، وهدم كافة البنى القتالية عبر قتال مباشر. هذه المهمة يمكن أن تستغرق شهوراً طويلة، وحتى سنوات، لكن واجبنا سيكون تنفيذها إذا كنا نريد الحياة”.
ويخلص سيبوني للقول إن الثمن أثقل من أن يُحتمل إسرائيلياً، لكن أيضاً هناك فرصة تاريخية لإعادة صوغ الساحة الفلسطينية، وحتى الإقليمية. ويضيف: “ممنوع العودة إلى أخطاء الماضي نفسها والاكتفاء بضربة سريعة محدودة للتنظيمات “الإرهابية”، والذهاب إلى وقف إطلاق النار. على إسرائيل الاستمرار في القتال حتى تفكيك القدرات العسكرية لـ “حماس” كلياً، واغتيال قياداتها وقيادات التنظيمات الأُخرى في غزة. الضغوط الدولية لوقف إطلاق النار ستأتي، عاجلاً أم آجلاً. لا يجب علينا التردد أمام هذه الضغوط المسماة “المجتمع الدولي”، بل الوقوف ضدها جميعها واستكمال المهم”.
ملجأ خطير
في المقابل، يواصل رئيس حكومة الاحتلال السابق نفتالي بينيت من مغبة الوقوع في “مصيدة” على شكل حملة برية واسعة تتورط إسرائيل نتيجتها في رمال غزة حتى تستنزف، وعندها ربما ينقض “حزب الله” على الجبهة الشمالية، وبمباركة، وربما تخطيط، من إيران. لكن أوساطاً إسرائيلية تستبعد انضمام “حزب الله” وتقول إنه سيكتفي بعمليات محدودة هنا وهناك لرفع العتب فقط، خاصة أن الولايات المتحدة تهدد تباعاً، ورئيسها يعرب عن مواقف صهيونية فاجأت حتى حكومة الاحتلال، وتدفع ببوارجها العسكرية نحو سواحل البحر المتوسط مقابل إسرائيل.
كما يؤكد وزير الأمن الأسبق موشيه يعلون على ضرورة التريث والتأمل قبيل اتخاذ قرار باجتياح في قطاع غزة وتحديد الهدف أيهما أهم الجبهة الجنوبية أم الشمالية، المرشحة لأن تشتعل هي الأخرى.
ميليشتاين: “حماس” فكرة، حتى لو أبيد القطاع لن تباد.. ولا من التفكير باليوم التالي بعد الحرب
من جهته، يحذر الجنرال في الاحتياط يتسحاق بريك من اجتياح بري تقليدي، وقال للقناة 12 العبرية، ليلة الأربعاء، إن دخول منطقة مكتظة مليئة بالسلاح والدافعية للقتال سيوقع الدبابات الإسرائيلية في مصيدة حقيقية. بريك المعروف بمواقفه النقدية الحادة ضد المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وعدم جاهزيتها القتالية منذ سنوات، يقترح التمهيد للاجتياح بقصف جوي واسع وغير دقيق، وأن يتم تقطيع أوصال القطاع أولاً، وخلق مسارات ودهاليز آمنة داخله تنطلق منها القوات الإسرائيلية للجوانب لتجهز على قوات “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، لافتاً إلى أن ذلك يستغرق أسابيع طويلة جداً، وربما شهوراً.
ويضيف بريك: “وقبل أن ندخل للانتقام من حماس علينا تخطيط ذلك، والخروج من منطلق فرضية أن العملية العسكرية داخل القطاع من شأنها دهورتنا لحرب شاملة، وعلى خمس جبهات، بل إن حرباً إقليمية من الممكن أن تنشب نتيجة للحرب في غزة”.
عملية تضليل إستراتيجية
في المقابل أيضاً، يشكك مسؤول سابق في المخابرات الإسرائيلية العامة (الشاباك) بخيار الاجتياح البري متسائلاً، في حديث للإذاعة العبرية العامة صباح اليوم، الأربعاء: “هل لدينا نفس طويل وجاهزية لتسديد الأثمان، خاصة أن ذلك يستغرق فترة طويلة، علاوة على تفاعلات وتبعات أخرى ربما تحدث في ساحات أخرى؟”. ويشدد على ضرورة مواصلة الضربات لأن “واجب الدولة الأساسي تأمين الأمن والأمان لمواطنيها، وهذا ما فشلت به إسرائيل، وبدون ذلك لن يبقوا للعيش فيها”. مذكراً بأن الصهيونية بَنَتْ هنا دولة، قبل 75 عاماً، لتكون ملجأ لليهود في العالم، وأحياناً يبدو أنها المكان الأخطر عليهم، وهي ما زالت غرسة غريبة في المنطقة وتواجه تحديات كثيرة لا يمكن حلها بالقوة فحسب.
ويرى الباحث المختص في الشؤون الفلسطينية دكتور ميخائيل ميليشتاين، من جامعة تل أبيب، أن “حماس” فكرة، وحتى لو أبيد القطاع لن تباد “حماس”. داعياً للتفكير باليوم التالي بعد الحرب، وبالسؤال مَن يحكم في القطاع ويدير شؤونه: إما نبقى هناك، كما بقي الأمريكيون في العراق، وأداروا شؤون سكانه، أو الخروج، والأمل بأن لن تحدث حالة صومالية هناك، في جوارنا. لافتاً إلى أن البدائل كلها صعبة.
ويتفق ميليشتاين مع من يرى أن إسرائيل بقيت، في السنوات الأخيرة، بدون رؤية أو إستراتيجية. مشدداً على أنها كانت أسيرة فكرة خاطئة مفادها أن “حماس” تعتدل ومنظمة مرتدعة. ويضيف: “بدأنا نفهم بعمق ماهية حماس العميقة؛ لقد اختارت خيار الجهاد، رغم مناوراتها هنا وهناك. وثانياً بدأنا ندرك عدم جدوى الوسائل الاقتصادية في تطبيع أو تطويع النمر الحمساوي. لا يمكن ألا نفكر في المستقبل، فمن غير المعقول أن نعود لما كنا عليه: فتح البوابات، وعودة العمال، والعودة لاتفاقات التهدئة والهدنة، والاتكاء على ردع غير موجود فعلياً”.
الجبهة الشمالية
واعتبر ميليشتاين أن “طوفان الأقصى” “خطة خططت لها “حماس” بقيادة يحيى السنوار ومحمد الضيف، طيلة عام، وهي الضربة الفلسطينية الأكثر وجعاً والأشد إيلاماً لإسرائيل بعدما قامت بتضليلنا. ما حصل هو تضليل إستراتيجي مدروس، يشمل دعوة سابقة لنتنياهو من قبل السنوار، ذات مرة، لاتخاذ قرار شجاع، وقبل ذلك أعلنت “حماس” أنها تقبل تسوية الدولتين، وعدّلت دستورها الخ، وكل ذلك يؤكد أننا فشلنا في قراءة جوهرية لحركة “حماس”، خاصة أننا نظرنا لها بعيون ومصطلحات ومفاهيم غربية. التهدئة، على سبيل المثال، لا تعني بالنسبة لهم اتفاقاً ملزماً ينبغي احترامه دوماً، بل فرصة للاستعداد للحرب لاحقاً”.
ميليشتاين: “طوفان الأقصى” خططت لها “حماس” بقيادة السنوار والضيف طيلة عام. ما حصل هو تضليل إستراتيجي مدروس
ورداً على سؤال، يستبعد ميليشتاين انضمام “حزب الله” للحرب، ويعلل ذلك بالقول إن نصر الله مرتدع وخائف وهو يرى مشاهد النار والدمار في قطاع غزة، وإنه يرى ردود فعل اللبنانيين، ويخشى من مهاجمة بيروت وبقية البنى التحتية اللبنانية، منوهاً إلى أنه، من جهة أخرى، يجد نفسه محرجاً لعدم مدّ يد العون لـ “حماس”، ولذلك يسمح ببعض العمليات المباشرة أو غير المباشرة ضد أهداف إسرائيلية في الجليل.
وهذا ما يحذر منه المحرر للشؤون العسكرية في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل، الذي يقول إنه لو افترضنا جدلاً بأن إسرائيل نجحت بتحقيق الأهداف بتدمير “حماس” ماذا تفعل مستوطنات الجليل أمام النمر المجاور لها- حزب الله– الذي تجاهلتْه إسرائيل حتى اليوم. ويقول هارئيل، في تحليله اليوم الأربعاء، إن الصدمة في إسرائيل بدأت تتبدد، ولكن لم تحدد أهداف الحرب بعد، معتبراً أن نزع قدرات “حماس” العسكرية، أو إسقاط نظام “حماس” يعني الاحتلال، متسائلاً هل هذا ممكن بالنظر لأثمانه وتبعاته؟
وجبة معنوية بالأساس
وأمام الزلزال الصادم، الذي ما زال يلقي بظلاله على البلاد، هناك إجماع في إسرائيل على ضرورة الانتقام، واستعادة الهيبة الجريحة، والردع المفقود، وحتى في مجال فكرة تبادل الأسرى، فقط صحيفة “هآرتس” تدعو، في افتتاحيتها، لصفقة تبادل أسرى فورية، لكن هذا صوت في البرية حتى الآن.
في التزامن ينتظر الإسرائيليون الإعلان الوشيك عن انضمام “الحزب الدولاني”، برئاسة بيني غانتس، لحكومة نتنياهو، لأن ذلك ينطوي على مساهمة في رفع منسوب المعنويات، ولن يغيّر في مخططات الحرب، مثلما أن البوارج الأمريكية المتقدمة نحو المنطقة تهدف للمساهمة في دعم إسرائيل والإسرائيليين نفسياً أيضاً. ويستدل من ردود الفعل الرسمية وغير الرسمية في إسرائيل أن الخطاب الصهيوني للرئيس بايدن أعطى الإسرائيليين وجبة إنعاش معنوي وشحنة معنوية (شحنة عسكرية أمريكية وصلت اليوم) وأملاً بإمكانية الخروج من المأزق والصدمة الكبرى في ظل فقدان الثقة بدولتهم، وبالنسبة لهم بات المستقبل مجهولاً وغير موثوق.