صوت البلد للأنباء –
لن تتمكن “إسرائيل” من البقاء في شوارع غزة أكثر من ذلك، فالمقاومة صامدة، والجبهة الداخلية باتت تتداعى من أثر الانقسام السياسي والخسائر البشرية والاقتصادية المتتالية.
نجحت المقاومة الفلسطينية خلال الفترة الماضية في إلحاق العديد من الخسائر بصفوف قوات الاحتلال، رغم فارق القوة الهائل بين الطرفين والسلاح الأميركي المتقدم الذي يستخدمه الإسرائيليون، في واقعة تكشف متانة العقيدة التي تتسلّح بها فصائل المقاومة داخل قطاع غزة وقدرتها على الصمود في أوقات الشدّة.
بحسب التقارير التي نشرتها وزارة الصحة التابعة لحكومة الحرب الإسرائيلية، أصيب أكثر من 10 آلاف إسرائيلي منذ يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وذلك من جراء العمليات التي تنفذها فصائل المقاومة في قطاع غزة وجنوب لبنان أو نتيجة للاشتباكات الحاصلة في الضفة الغربية مع الشباب الفلسطينيين.
الأمر المهم في هذا السياق أن قطاع الصحة الإسرائيلي بات يشكو بسبب عدم قدرته على تقديم الرعاية الطبية لهذا العدد من الجرحى والمصابين، فهناك نحو ألفي أشخاص سيعانون عاهة دائمة، كما أن الأعداد مرشحة للارتفاع مع استمرار الحرب. أما الأسرّة المتاحة لإعادة التأهيل، فقد انخفض عددها من 750 سريراً إلى 150 سريراً متاحاً للمرضى الجدد.
هنا، تتكشف حقيقة “إسرائيل” وعدم قدرتها على الصمود في حرب طويلة الأمد، وهذا ما دفع قادة الكيان على مدار العقود الماضية إلى تحاشي الانجرار إلى معارك تمتد لفترات زمنية واسعة، لما تسببه من خسائر اقتصادية فادحة، إضافة إلى ارتفاع معدلات الهجرة العكسية من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبناء عليه، فإن صمود المقاومة مع استمرار عملياتها يعدّ انتصاراً في حدّ ذاته.
ويُعدّ اعتراف “جيش” الاحتلال مؤخراً بتدمير آلياته ومقتل ضباطه وجنوده في المعارك الدائرة في شمالي قطاع غزة بمنزلة ضربة للروح المعنويّة داخل “إسرائيل”، إذ عاد الرأي العام الإسرائيلي إلى موقع الخصومة مع بنيامين نتنياهو، بعدما كان قد مال إلى صفه مع بدء عمليات الاحتياج البري خاصة.
وكان العديد من الإسرائيليين قد تملّكهم إحساس هائل باليأس بعد عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لكنهم استعادوا بعضاً من الثقة مع بدء العدوان على قطاع غزة، واعتبروا أن قتل الأطفال والنساء وقصف المستشفيات أمور كافية على سبيل الثأر، لكنّ صمود المقاومة وقدرتها على توجيه الضربات إلى قوات الاحتلال أعادت الأمور إلى سابق عهدها، ومنعت الإسرائيليين من “الاستمتاع بنشوة النصر”.
في السياق ذاته، تكشف التقارير الاقتصادية عن حجم الخسائر المادية التي يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي مع تصعيد الحرب في غزة، إذ بلغت نحو 600 مليون دولار أسبوعياً، وذلك بسبب نقص القوى العاملة، كما نجمت عن إجلاء نحو 144 ألف عامل من المستوطنات القريبة من الحدود مع غزة ولبنان، إضافة إلى استدعاء نحو 350 ألف جندي احتياطي في “الجيش” الإسرائيلي.
تململ أوروبي بسبب الفشل الإسرائيلي
الأمر اللافت دولياً هو رصد حالة تململ أوروبي وأميركي بسبب استمرار تقديم الغطاء السياسي لحكومة الاحتلال. وفي الوقت ذاته، يفشل الضباط والجنود الإسرائيليون في تحقيق أهدافهم داخل قطاع غزة المتمثلة في “تحرير” الأسرى والوصول إلى قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي كخطوة نحو استئصال شأفة المقاومة بشكل كامل.
وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا قد دعت منذ أيام إلى هدنة فورية بهدف الإفراج عن المزيد من الرهائن، وإدخال كميات أكبر من المساعدات إلى غزة، كما دانت الغارة الإسرائيلية التي تسببت في مقتل أحد موظفي الخارجية الفرنسية أثناء وجوده داخل منزل في رفح، مطالبة بتوضيح من السلطات الإسرائيلية.
ودعا وزيرا خارجية بريطانيا وألمانيا إلى وقف دائم لإطلاق النار، معربين عن انزعاجهم بسبب سقوط عدد كبير من المدنيين قتلى، مؤكدين أن ما يجري يقضي على “أي احتمالات للتعايش السلمي مع الفلسطينيين”.
ورغم أن البيت الأبيض قدّم دعماً سخياً لحكومة الاحتلال، فإنه في الوقت ذاته يريد أن تنفذ “إسرائيل” مخططها للقضاء على المقاومة الغزّاوية في أسرع وقت، وذلك لتجنب اتساع مساحة الحرب، وكذلك تحاشياً لارتفاع معدلات الكراهية العربية للدور الأميركي العدائي.
حتى الفاتيكان بات عاملاً من عوامل الضغط على حكومة نتنياهو، وذلك بعدما قال البابا فرنسيس إن “إسرائيل تستخدم أساليب الإرهاب في قطاع غزة”، مستنكراً التقارير التي تفيد بقتل قناص تابع لقوات الاحتلال سيدتين مسيحيتين لجأتا إلى مجمع كنيسة.
في الوقت ذاته، يستمر عشرات الإسرائيليين في نصب خيامهم في “تل أبيب”، للتعبير عن رفضهم استمرار الحرب على قطاع غزة، وخصوصاً بعدما أعلن “جيش” الاحتلال أنه قتل 3 “رهائن” كانت كتائب عز الدين القسام تحتجزهم في حي الشجاعية.
شوارع غزة باتت متاهة والاحتلال غارقٌ في الوحل
بات العدو الإسرائيلي على قناعة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن من المستحيل اقتلاع جذور المقاومة ما دامت الحاضنة الشعبية محيطة بها. لذا، أصبح مشروع حكومة الاحتلال المعلن اليوم هو دفع أهالي غزة إلى النزوح جنوباً قرب الحدود المصرية أو إخلاء القطاع بشكل كامل، وذلك عبر الإسراف في عمليات الاستهداف للمدنيين وتنفيذ حملة إرهاب مسلح لتخويف الأهالي من الالتفاف حول المقاومين.
لكن المؤكد أن تلك المخططات ستبوء بالفشل ما دامت معطيات الصراع كما هي، وخصوصاً أن الضغوط الداخلية والخارجية باتت تتراكم على كاهل قادة الكيان، دافعةً إياهم إلى القبول بوقف إطلاق النار والانسحاب من قطاع غزة، وهو ما يعني عملياً انتصار المقاومة وفشل “إسرائيل” في تحقيق أهدافها.
الخبراء العسكريون الإسرائيليون أنفسهم باتوا يعلنون أن حرب غزة ليست سهلة بالنظر إلى مستوى أداء قواتهم العسكرية. ورغم مرور أكثر من شهرين على عمليات القصف المتواصل والتوغّل البرّي، فإن الصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة ما زالت مستمرة، كما ينتشر المسلحون في المدن الغزّاوية كافة، وينجحون في نصب الكمائن للضباط والجنود الإسرائيلين. أما أكبر الخسائر، فهو اتساع رقعة المعارك وامتدادها من جنوب لبنان حتى جنوب البحر الأحمر.
على صعيد موازٍ، وكما يشكو العسكريون الإسرائيليون من غرقهم في الوحل وعدم قدرتهم على تنفيذ المهام المكلّفين بها، فإن سفراء كيان الاحتلال بالخارج باتوا مستائين بسبب اتساع مساحة الرفض للممارسات الإسرائيلية ضد المدنيين داخل قطاع غزة أو للدقة للوجود الإسرائيلي ذاته في منطقة الشرق الأوسط.
ومن المعلوم أن المعارك الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية ومحورها في جانب والكيان الإسرائيلي في جانب آخر أخذت طابعاً أممياً يتخطى الحدود الإقليمية الضيقة، فهناك أقطاب دولية صاعدة صار لها مصلحة مباشرة في هزيمة “إسرائيل”، لما يمثله ذلك من هزيمة لواشنطن ومساحة وجودها في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
إنما النصر صبر ساعة
لن تتمكن “إسرائيل” من البقاء في شوارع غزة أكثر من ذلك، فالمقاومة صامدة، والجبهة الداخلية باتت تتداعى من أثر الانقسام السياسي والخسائر البشرية والاقتصادية المتتالية. أما دولياً، فاستمرار الحرب لفترة أطول يعني أن نتنياهو يضحي بالمزيد من حلفائه الغربيين، والأهم أن كل هذا يحصل دون طائل.
كان قادة الاحتلال ينتظرون أن تقبل فصائل المقاومة بأيّ نوع من المساومات، وتوقعوا أن يؤدي رفع معدل الحصار عبر إغلاق معبر كرم بو سالم والتحكم في معبر رفح إلى دفع قادة المقاومة نحو القبول بالشروط الإسرائيلية التي لا تتعلق فقط بطريقة تبادل الأسرى، بل تشمل كذلك طريقة إدارة القطاع لاحقاً وشكل الحياة داخله.
لم تترك المقاومة سلاحها، وهذا أشدّ ما يزعج الأميركي والإسرائيلي، كما لم تفرج عن الأسرى إلا وفقاً لشروطها التي تتضمن تحرير أعداد مضاعفة من الأسرى الفلسطينيين، فإذا تمت الهدنة المرتقبة وفقاً لتلك الرؤية، فإن المقاومة ستكون هي الطرف المنتصر سياسياً وعسكرياً، وسيكون نتنياهو على موعد مع رأي عام داخلي غاضب وثائر، ما سيضاعف من حجم الشروخ داخل “المجتمع الإسرائيلي”.
بات الكل يدرك أن “إسرائيل” إذا أوقفت حربها، فإن هذا يعبر بوضوح عن فشلها وانتصار حركات المقاومة. لذا، فهي تعتمد المناورة لكسب مزيد من الوقت لاستكمال عملياتها في محافظة خان يونس والمناطق المجاورة لها، وذلك بهدف تحسين صورتها أمام الشارع الإسرائيلي.
الحقيقة أنه لا يمكن القضاء على المقاومة كفكرة ورؤية، وهو درب من العبث سار فيه بنيامين نتنياهو، فهو برفعه سقف أهدافه من العملية العسكرية داخل غزة تسبب في خيبة أمل جديدة لدى الإسرائيليين، وخصوصاً أن أهالي غزة سيتخطّون الدمار الذي لحق بهم، وستعود الحياة إلى طبيعتها بالتدريج بعد وقف إطلاق النار، وستُبقي المقاومة على سلاحها. وبهذا، تكون الهزيمة من نصيب “إسرائيل”.