صوت البلد للأنباء –
اسماعيل الشريف
(لا يُقاتِلونَكُم جَميعًا إِلّا في قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَو مِن وَراءِ جُدُرٍ بَأسُهُم بَينَهُم شَديدٌ تَحسَبُهُم جَميعًا وَقُلوبُهُم شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَعقِلونَ) «الحشر: 14».
يصلني يوميًّا سيل من الأخبار والتحليلات المتعلقة بأحداث طوفان الأقصى، والتي تستحوذ على معظم وقتي، أتابع العديد من الفيديوهات التي تحلل أسباب الإبادة الجماعية في غزة والبطش الذي لم نسمع عنه إلا في قصص التتار والمغول.
بعض الناس يعزون ذلك إلى رغبة إسرائيل في حفر قناة بن غوريون التي ستمر من غزة وستنافس قناة السويس، وبعضهم يرى أن ذلك يعود إلى رغبة المحتل في سرقة آبار الغاز على سواحل غزة، أو تمكن المقاومة من سرقة الملفات السرية من الوحدة 8200 مركز التجسس الإلكتروني. قد يكون كل ذلك صحيحاً، ولكنه بالتأكيد ليس سبب القتل والدمار في غزة، والقول بأن الصهاينة قد تواطئوا أو غضوا الطرف عن طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر هو ادعاء باطل غير صحيح، وهو إهانة لقوة المقاومة ونجاحها.
هذه الادعاءات والتحليلات هي تسطيح للحدث. فالذي جرى في السابع من أكتوبر كما أسمته حماس «طوفان»؛ قد اقتلع جوهر الصهيونية ومبادئ الأمن القومي الصهيوني، ومزق العقد الاجتماعي لهذا الكيان الغاشم!
في العام 1923 كتب الإرهابي زئيف جابونسكي -مؤسس الحركة التصحيحية للصهيونية؛ وهي نسخة يمنية متطرفة من الصهيونية ترفض قرار التقسيم وتهدف إلى احتلال أكبر مساحة ممكنة من الأراضي خارج فلسطين- قائلاً: «إن السلام مع الفلسطينيين أمر مستحيل، يجب على الصهاينة عدم الالتفات عند الاستيطان إلى مزاج السكان الأصليين، وبالتالي يمكن للاستيطان أن يتطور تحت حماية قوة لا تعتمد على الصهاينة المحليين خلف جدار حديدي لن يكون بمقدورهم تحطيمه.»
تنطلق هذه العقيدة من وجود قوة عسكرية غاشمة تشكل جدارًا لا يوجد فيه أية تصدعات أو شقوق يؤدي بالفلسطينيين اللاجئين إلى اليأس من عودتهم إلى ديارهم وإيمانهم بانكسارهم وانكسار من يقف خلفهم ويدعمهم؛ ففي السابع من أكتوبر نُسِفَت هذه العقيدة، وجاس أبناء اللاجئين في البلاد، واحتلوا المستوطنات وهدموا الجدار الحديدي الذي يفصل غزة عن فلسطين، ومزقوا العقد الاجتماعي الذي ينص على أن الجيش قادر على حماية مواطنيه ومهاجريه، وفشلت استخباراتهم في التنبؤ بهذه العملية، وصدمت المقاومة من هشاشة جيش الاحتلال الذي انهار أمامهم.
وكما انهار أمام هذا الطوفان الكثير من أعمدة الأمن القومي الصهيوني، منها: الردع (إخافة الجميع من قوة إسرائيل)، الحروب خارج «إسرائيل»، جز العشب وقتل الأفاعي (اضطهاد المدنيين والقضاء على الحاضنات البيولوجية والاجتماعية للمقاومة)، إدارة الحصار، الحرب السريعة الحاسمة، الشعب المقاتل، المستوطنات هي حدود الكيان المحتل ورأس الحربة. ثم انهيار تعليمات هانيبال، (بعد حرب عام 2014 قرر قادة الصهاينة استخدام القوة المفرطة لتحرير الرهائن مما أدى إلى قتلهم، وترك هذا جروحا عميقة، فقرروا بعدها أن الأولوية دائمًا ستكون في تحرير الرهائن، ثم عادوا مرة أخرى لإلغاء هذا الأمر، مما يتعارض مع مبدأ الستار الحديدي).
لذلك كانت ردة الفعل الصهيونية عنيفة جدًّا، وبدعم غربي وتواطؤ من دول عربية، فالطوفان شكل تهديدًا لوجود الكيان الصهيوني. لذا لا تستغرب إذا هدد قادة الصهاينة باستخدام السلاح النووي في غزة أو خارجها. فهذه عندهم تسمى عقيدة شمشون؛ والتي تنص على أنه إذا تعرض الكيان المحتل لخطر وجودي فسوف يستخدم السلاح النووي، بالمبدأ الذي يقول: عليّ وعلى أعدائي.
بعد هذه الحرب التي ستخرج منها المقاومة منتصرة، بإذن الله، يبرز السؤال الأهم: هل يستطيع الكيان امتصاص هذه الصدمة وحماية سكانه واستعادة هذا العقد وحل غزة؟
حتى الآن، أعتقد بأن قادة الصهاينة قد فشلوا في ذلك، فالمسؤول الأول عن هذا الإخفاق هو نتنياهو، يكافح من أجل البقاء في موقعه، وفيما يبدو أنه لن يبادر ويستقيل، وهنالك حالة شديدة من الانقسام السياسي والشعبي ستزيد مع الوقت، ولم يستطع الجيش تحقيق أي من أهدافه التي تناقصت مع الوقت، بل تكبد خسائر جسيمة.
لقد دفعت الصهيونية ثمناً لغطرستها، وأثبت طوفان الأقصى أن القوة العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية لا تكفي لاحتلال شعب واستمرار اضطهاده.
الحل الوحيد هو دولة من النهر إلى البحر يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، بعد أن يغفر الفلسطينيون للمحتل ظلمه الذي استمر لعقود!