صوت البلد للأنباء –
خاص- محمد المحتسب
في حياة كل وطن هناك رجال يمرّون كالعابرين وهناك رجال يُقيم فيهم الوطن نفسه لأنهم عاشوا له لا عليه لا تُعرّفهم المناصب ولا تُحصيهم القرارات بل ترويهم الذاكرة كحكاية من الطين والشرف ومن هؤلاء الرجال يبرز اسم اللواء المتقاعد عبدالوَالي باشا الشخانبة الذي لم يأتِ إلى العمل العام من باب المنصب بل من باب الواجب ولم يغادره إلا كما دخله مرفوع الرأس نظيف السيرة ثابت الخطى على أرض أحبّها حتى التواضع .
لم يكن الشخانبة رجلًا من أولئك الذين يختبئون خلف المكاتب أو يكتفون بالتصريحات الرسمية بل كان يؤمن أن القائد الحقيقي هو من يخطّ أثره في الميدان لا على الورق ومن يترك في كل موقع بصمة لا تُمحى كان يرى أن الشارع هو الامتحان الصادق لرجل الأمن وأن الناس هم المرآة التي لا تكذب لذلك كان حضوره الميداني علامة يعرفها المواطنون قبل الجنود ويشهد بها كل من رآه يشارك رجاله برد الشتاء وحر الموقف .
ومنذ بداياته في جهاز الأمن العام حمل الباشا الشخانبة فكرًا مغايرًا في القيادة كان يعتقد أن الانضباط ليس قسوة وأن الحزم لا يعني فقدان الإنسانية وأن رجل الأمن الذي لا يملك قلبًا لا يمكنه أن يحمي وطنًا لذلك كان قريبًا من الناس بقدر قربه من القانون حاضرًا في الشارع كما في القرار يسمع قبل أن يتكلم ويصلح قبل أن يعاقب ويُعلّم قبل أن يُحاسب .
في مدينة إربد عرفه الناس كوجه أمني وإنساني في الوقت ذاته لا يمرّ في شوارعها مرور المسؤولين بل كواحد من أبنائها كان يتفقد المواقع بنفسه يتحدث مع الأهالي يشارك في اللقاءات المجتمعية ويؤمن أن الأمن لا يُبنى فقط بالرقابة بل بالثقة والاحترام المتبادل ولأنه كان صاحب رؤية اجتماعية عميقة انخرط في المبادرات المحلية وخاصة تلك المتعلقة بمكافحة المخدرات والتوعية الأسرية والشبابية إيمانًا منه بأن الوقاية هي جوهر الأمن وأن حماية المجتمع تبدأ من الوعي قبل القانون .
وفي كل موقع خدم فيه ترك الشخانبة انطباعًا ثابتًا لا يتغير رجل مؤسسي منضبط لا يتعامل مع المسؤولية كموقع بل كرسالة وحين تولّى مهامًا مرتبطة بشؤون المرور والسلامة العامة حمل معه فكر التنظيم لا الردع وسعى لتجديد العلاقة بين المواطن ورجل الأمن لتكون قائمة على المشاركة لا المواجهة كانت نظرته أن القانون ليس عصًا تلوّح بها السلطة بل مظلة تحتمي بها الناس جميعًا .
وحين صدرت الإرادة الملكية بترقيته إلى رتبة لواء لم تكن تلك الخطوة مجرّد اعتراف إداري بل تكريم لمسيرة من العطاء الصامت والجهد الدؤوب ولمشوار طويل من العمل النزيه والقيادة المتزنة وعندما جاء موعد التقاعد لم يحتفل الرجل كثيرًا لأن أمثاله لا يقيسون المجد بالرتب بل بالضمير الذي لا يعرف التقاعد غادر موقعه بصمت القادة الذين اعتادوا أن يعملوا أكثر مما يتكلمون تاركًا وراءه أثرًا جميلًا وسيرة بيضاء .
الذين عرفوا الباشا الشخانبة عن قرب يتحدثون عن رجل يجمع بين الصرامة والرحمة بين الحزم والرقي في التعامل كان يترك في كل لقاء انطباعًا بالثقة وفي كل موقف درسًا في التواضع لم يكن يومًا محسوبًا على تيار أو جهة بل على الوطن وحده وقد حمل هذا الانتماء الصادق في كل قراره وموقفه حتى صار اسمه مرادفًا للنزاهة والانضباط والإنسانية .
إن الحديث عن الشخانبة لا يمكن أن يُختزل في المناصب التي شغلها ولا في القرارات التي أصدرها بل في تلك الروح التي ظلّت ترى في الخدمة واجبًا أخلاقيًا لا مهمة وظيفية كان يؤمن أن رجل الأمن هو خط الدفاع الأول عن الوطن لكنه في الوقت نفسه سفير الرحمة بين الناس ومن هذا الفهم النادر تميّزت مسيرته واكتسب احترام زملائه ومحبة المواطنين على حد سواء .
ومع مرور الأيام وبعد أن طوى صفحة الخدمة الرسمية لم يغادر الباشا عبدالوَالي الشخانبة ذاكرة زملائه ولا وجدان الناس بقي اسمه حاضرًا في وجدان كل من يقدّر معنى القيادة الهادئة والعطاء النظيف والانتماء الصادق إنه أحد أولئك الذين لا يُكتب عنهم لأنهم كانوا مسؤولين بل لأنهم كانوا قدوة والقدوة لا تُحال إلى التقاعد بل تبقى نبراسًا يهتدي به القادمون بعدهم يذكّرون الوطن أن الميدان لا ينسى رجاله وأن من خدمه بصدق لا يغادره أبدًا .












