صوت البلد للأنباء –
يحلّ عيد الأضحى المبارك على سكان قطاع غزة هذا العام مثقلًا بركام الألم والحصار، فلا أضاحي تُذبح، ولا فرحة تطرق أبواب البيوت التي هدمتها الحرب، ولا أطفال يلبسون الجديد أو يلهون في الساحات.
وللعام الثاني على التوالي تحت القصف والمجاعة، يأتي العيد في غزة باهتًا، حزينًا، وتغيب عنه طقوسه وتُغتال ملامحه، بعدما حوّلت آلة الحرب الصهيونية المدن إلى أطلال، والأسواق إلى خرائب، والقلوب إلى بؤر وجعٍ لا ينضب.
وبينما يُحيي المسلمون حول العالم هذه المناسبة المباركة بالبهجة والتكافل، يُحييها الغزيون بين آلام الفقد وخيام النزوح، وطوابير الانتظار الطويلة على شاحنات المساعدات الشحيحة، ففي غزة لا صوت للتكبيرات يعلو على دوي القصف، ولا دماء للأضاحي تُراق سوى دماء الأبرياء.
الحاج أبو فادي الكتري من مدينة غزة يجلس أمام خيمته البسيطة قرب أحد مراكز الإيواء، محاطًا بأطفاله الذين يرتدون ما تيسّر من ملابس ممزقة، يروي بحرقة في حديثه إلى كيف تغيّر حال العيد: “كنا في مثل هذه الأيام نبدأ الاستعداد للعيد بكل فرح، ونحجز الأضحية، ونشتري الحلويات، وأدوات الذبح”، مضيفاً “كنّا نذبح خروف العيد، ونوزّع لحمه على الجيران قبل أن نجتمع جميعًا على مائدة واحدة مليئة بالفرحة، أما في زمن الحرب، فلا بيت نعود إليه، ولا لحم نوزعه، ولا حتى شاي نقدّمه لأطفالنا، حتى الشاي صار صعب المنال، فكيف بالأضاحي؟!”
ينظر الكتري حوله بصمت، ثم يُحدّق بنظره في السماء، حيث تحلّق طائرات الاحتلال بلا انقطاع، ويُتابع بصوتٍ تختلط فيه الحسرة بالصبر: “العيد في غزة ليس عيدًا، إنه مشهد من الحزن الصافي، فقدنا بيوتنا وأهلنا وفرحتنا، ولم يتبقَّ لنا سوى رحمة الله”، مشيراً إلى أنّ أحفاده يسألونه عن العيد واللباس الجديد، وعن الخروف والأضاحي، ولا يملك جواباً سوى أنّ العيد حين تنتهي الحرب.
فرحة الأطفال مغدورة.. لا ملابس ولا ألعاب
ورافق غياب الأضاحي أيضًا اختفاء مظاهر العيد المعتادة، وفي مقدمتها فرحة الأطفال، فلا أسواق ولا ملابس جديدة، ولا حتى أبسط الألعاب التي كانت تدخل البهجة إلى قلوب الصغار، حيث في مخيمات النزوح، يُمضي الأطفال العيد بوجوه شاحبة، وملابس ممزقة، وعقول مثقلة بما لا يُحتمل.
أم يوسف أبو لحية، نازحة من جباليا إلى مدينة غزة، تجلس على كومة من البطانيات المهترئة داخل خيمة ضيقة لا تقي حرّ الصيف ولا برد الليل، تُحاول أن تُخفي دموعها أمام أطفالها، لكنها تُفشلها الكلمات حين تتحدث عن مشهد العيد كما عاشته في بيتها ذات يوم، وكما تراه اليوم من قلب المأساة.
وتقول بنبرة موجوعة: “كان العيد يعني لأطفالي البالونات، والملابس الجديدة، والعيدية، والخروج للعب في الشوارع والساحات، وكانوا ينتظرونه بشغف، ويعدّون الأيام قبله، أما هذا العيد، فلا يسألونني إن كنا سنخرج أو نلعب، بل إن كنا سنأكل أم لا”.
تتوقف أبو لحية قليلاً لتمنع دمعة من الانهمار، ثم تضيف: “طفلي الصغير سألني: ماما، هل سنفطر صباح العيد مثل زمان؟ ولم أستطع الرد، ولا يوجد شيء، لا طعام، لا فرحة، لا أمان، نحن نعيش في حالة لا تشبه الحياة، نعدّ الساعات على أمل أن تمرّ دون قصف.”
وتشير الأم إلى خزانة مهترئة بجوارها كانت قد أخرجت منها في عيد سابق ملابس العيد، وتُضيف بأسى: “كنا نُخبئ ملابس العيد في مكانٍ خاص، ونُجهّز الكعك ونُزيّن البيت، أما خلال الحرب نُخبئ أطفالنا من الموت، ونعدّ الخيام بدلاً من البيوت.”
طقوس الغائبين وحزن المقابر
ولا يمر العيد في غزة دون الحزن على الشهداء، حيث تمتلئ المقابر بالزوار الذين يستقبلون أول أيام العيد على قبور أحبّائهم، حاملين معهم الورود ودموعًا لا تجف.
يقول الشاب محمود الأخرس الذي فقد والده وأخاه في قصف استهدف منزله في شمال القطاع: “كان أبي أول من يوقظنا لصلاة العيد، بصوته العالي وضحكته التي تملأ البيت، وكنا نُعيد على بعضنا، نتناول الفطور معًا، ونذهب سويًا للمسجد، أما هذا العيد فأبي تحت التراب، وشقيقي بجواره، دفنتهم بيديّ، ولم يبقَ لي سوى صورتهم في ذاكرتي.”
ينظر الأخرس إلى الأرض، ويُكمل بصوتٍ مكسور: “سأزور قبر والدي وشقيقي صباح العيد، وسأضع وردة ذابلة جمعتها من أطراف الطريق، لا شيء آخر أستطيع تقديمه لهما، ولم أعد أفرّق بين ألم الغياب وألم الحياة، فكلاهما يُنهكني، فكلّ شيء فقد معناه، العيد، البيت، اللحظة، حتى ضحكتي التي كانت ترتبط بوجودهم.”
ويُحاول أن يُخفي دمعة فرت من عينيه، ثم يتابع: “كنا نجتمع صباح العيد حول والدي، نصلي سويًا، ونضحك، ونتبادل التهاني، أما اليوم، فلا صلاة ولا مائدة ولا صوت، فالعيد بالنسبة لي أصبح جرحًا جديدًا يُضاف إلى جراحنا المفتوحة منذ شهور”، لافتاً إلى أنّه “في غزة، لا نُحضر الأضاحي للعيد، بل نُحضّر الأكفان، ولا نُزيّن البيوت، بل نحفر القبور، ولم يتبقَّ لنا إلا الذكريات، والنداء الخافت في القلب: اللهم صبّرنا.”
مجاعة ومساعدات لا تكفي
ومع تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت خط الجوع، في ظل انهيار شبه كامل في منظومة الخدمات الأساسية، وتراجع حاد في وصول المساعدات الإغاثية
ويشتكي السكان من شُح المساعدات، وافتقارها إلى الحد الأدنى من الاحتياجات، وسط اتهامات بانتشار سرقات منظمة تمارسها عصابات تستولي على المساعدات قبل أن تصل إلى مستحقيها من النازحين والمحتاجين.
وفي هذا السياق، تحذر منظمات أممية من أن حالة انعدام الأمن الغذائي في غزة وصلت إلى “كارثة مكتملة الأركان”، مشددةً على أن الوضع يتطلب تدخلًا عاجلًا وفعّالًا لإنقاذ أرواح الأطفال والمرضى والمسنين، الذين باتوا يواجهون خطر الموت جوعًا في واحدة من أشد الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث.












